التغييرات الجديدة ومستقبلُ الشرقِ الأوسطِ!

نعمان سعید

يشهدُ الشرقُ الأوسطُ تغيُّراتٍ جوهريةً تتجاوزُ الصراعاتِ التقليدية، وقد تُعيدُ رسمَ خارطةِ النفوذِ الإقليمية. وعلى أعتابِ هذهِ التغيُّراتِ برزتْ على شاشاتِ الإعلامِ وفي مجالسِ الدولِ الرسميةِ مصطلحاتٌ جديدةٌ مثلُ «الحكمِ المشترك»، وهوَ ليس مجرَّدَ مصطلحٍ بل فكرةٌ استراتيجيةٌ هامة.

تفترضُ هذه الفكرةُ أنَّ المنطقةَ تتجهُ نحوِ ترتيبٍ جديدٍ تُدارُ فيهِ شؤونُهاَ من قِبَلِ قوىٍ إقليميةٍ بارزةٍ — كالمملكةِ العربيةِ السعودية، والإماراتِ، وتركيا، وإيران، ومصر — بنمطِ شراكةٍ منسَّقٍ يحملُ في الغالبِ دعمَ روسيا والصين، بينما يُستدرجُ الكيانُ الإسرائيليُ في موقعٍ تابعٍ لا حاكمٍ.

لكنَّ السؤالَ: هلْ هذه الفكرةُ واقعيةٌ؟ وما الذي يدعمُها؟ وما العوائقُ التي قد تُفشلها؟ والأهمُّ: كيفَ يمكنُ للأمةِ الإسلاميةِ أن تستفيدَ منها بدلًا من أن تكونَ مجردَ متلقٍ للقراراتِ المتخَذَةِ خلفَ الستار؟

أُسسُ الفكرةِ: هلْ يتجهُ الشرقُ الأوسطُ نحوَ نظامٍ جديدٍ؟ مؤيِّدو نظريةِ «الحكمِ المشترك» يستندونَ إلى عدةِ مؤشراتٍ منها:

1. تقاربُ الخصومِ الإقليميين: شهدنا في السنواتِ الأخيرةِ تحوُّلاتٍ مفاجئةً وغيرِ متوقعةٍ، كاقترابِ السعودية وإيران، وتدخلِ الصينِ كوسيطٍ، وتحسُّنِ العلاقاتِ بينِ تركيا ومصر، ما يشي برغبةٍ في خفضِ التوترِ والدخولِ في شراكاتٍ استراتيجيةٍ.

2. تراجُعُ النفوذِ الأمريكي: سياسةُ الانسحابِ التدريجيّ لواشنطنِ وتركيزُها على الصينِ وروسيا أعطى الفاعلينَ الإقليميين مساحةً لإعادةِ ترتيبِ أولوياتِهم وبناءِ تحالفاتٍ مستقلةٍ.

3. تزايدُ دورِ روسيا والصين: سواءً عبرَ آلياتِ بريكس أو مبادراتِ «الحزامِ والطريق»، فهناكَ مساعيٌ لإقامةِ إطارٍ اقتصادي-أمنيٍ جديدٍ يُقلِّصُ هيمنةَ الغربِ التقليديةَ.

4. تصاعدُ التعاونِ الأمني والاقتصادي: مشاريعٌ كبرى تربطُ المنطقةَ بمنافذٍ تجاريةٍ جديدةٍ تُعيدُ توزيعَ الأدوارِ الإقليميةَ وتُعزِّزُ الاستقرارَ المشروطَ.

5. محاولةُ إسرائيل إعادةَ ترتيبِ موقعِها: التحركاتُ الإسرائيليةُ وإدامةُ سياساتِ العدوانِ ومحاولاتُ توسيعِ النفوذِ في مناطقَ حساسةٍ تشيرُ إلى إدراكِها أنها قد تفقدُ موقعَها التقليديَّ كحليفٍ استراتيجيّ للغربِ، فترمي إلى فرضِ وقائعَ جديدةٍ على الأرضِ قبلَ أن يتغيرَ المشهدُ الإقليميّ.

عوائقٌ وتحدياتٌ تواجهُ الفكرة: لماذا قد لا تتحققُ هذه النظريةُ عمليًا؟ معَ المؤشراتِ السابقةِ توجدُ معوِّقاتٌ قد تحولُ دونَ ترجمتِها إلى واقعٍ مستقرٍّ:

1. المنافسةُ الجيوسياسيةُ بينَ القوىِ الإقليميةِ: بالرغمِ من المصالحِ المشتركةِ هناك خلافاتٌ عميقةٌ بينَ إيرانَ والسعودية، وبينَ تركيا ومصرَ؛ خلافاتٌ لم تُحَل بعدُ وتظهرُ في ساحاتِ الصراعِ بسوريا واليمن وليبيا والعراق والسودان.

2. غيابُ إطارٍ مؤسسيٍّ موحَّدٍ: حتى الآن لا يوجدُ هيكلٌ تنظيميٌّ واضحٌ يُشبهُ الاتحادَ الأوروبيَّ لتحويلَ التعاونِ إلى منظومةٍ دائمةٍ، فحلفُ بریکسَ مثلاً يظلُّ تحالفًا غيرَ متمركزٍ.

3. استمرارُ نفوذِ الغربِ: رغمَ تراجعِه النسبيِّ، لا تزالُ للغربِ أوراقُ قوةٍ — قواعدٌ عسكريةٌ، نفوذٌ اقتصاديٌّ ودبلوماسيٌّ — قادرةٌ على إعاقةِ مشروعاتٍ تخالفُ منظومتَهُ.

4. موقفُ إسرائيل: من الصعبِ تصوُّرُ تحولِها من لاعبٍ مسيطرٍ إلى تابعٍ بسهولةٍ؛ فهي ستقاومُ أيَّ نظامٍ يقلِّصُ نفوذَها الاستراتيجيَّ.

5. ضعفٌ داخليٌّ لدى بعضِ الدولِ الإقليميةِ: الكثيرُ من القوى الكبرى في المنطقةِ تعاني أزماتٍ داخليةً اقتصاديةً وسياسيةً تحدُّ من قدرتها على لعبِ دورٍ إقليميٍّ مستدامٍ.

كيفَ تستفيدُ الأمةُ من هذا التحولِ؟ سواءٌ تحققَ «الحكمُ المشتركُ» أو لم يتحققْ، الأهمُّ أن تمتلكَ الأمةُ الإسلاميةُ رؤيةً واستراتيجيةً للاستفادةِ بدلاً من أن تظلَّ مجردَ متلقٍّ. نقاطُ التركيزِ المقترحةُ:

1. بناءُ وعيٍ استراتيجيّ: لا بُدَّ من تعزيزِ الدراساتِ والتحليلاتِ الجيوسياسيةِ لكي تفهمَ الأمةُ مساراتِ النفوذِ وتستعدَّ لها بعقلٍ واعٍ.

2. تعزيزُ القوةِ الاقتصاديةِ: على الدولِ الإسلامية أن تُطوّرَ تعاونًا اقتصاديًّا حقيقيًّا بينَ بعضها، وأن تُقلِّلَ الاعتمادَ على القوىِ الخارجيةِ.

3. دعمُ مشاريعِ الاستقلالِ التقنيِّ والصناعيِّ: إذا كان الحديثُ عن سيادةٍ فعليةٍ فلا بدَّ من امتلاكِ قدرةٍ إنتاجيةٍ وتكنولوجيةٍ تقلِّصُ تبعيتَنا.

4. محاربةُ اليأسِ والاستسلامِ: يجبُ أن يُستبدلَ شعورُ العجزِ بفكرٍ مبادرٍ؛ التاريخُ يُكافئُ من يَصنعُ القرارَ لا من يَرصدُ التغيراتِ فقط.

5. الابتعادُ عن الطُرفيةِ المطلقةِ: لا نَنظرْ إلى النتائجِ بالأسودِ أو الأبيضِ، بل نبحثُ عن فرصٍ جزئيةٍ يمكنُ استثمارُها لصالحِ مصالحِ الأمةِ العليا.

سيناريوهاتٌ محتملةٌ والبدائلُ المناسبةُ للأمةِ: نواجهُ عدةَ مساراتٍ محتملةٍ:

إنْ تجسدتْ نظريةُ «الحُكمِ المشتركِ»، فعلى الأمةِ الدخولُ بحذرٍ حتى لا تتحوَّلَ الشراكةُ إلى شكلٍ جديدٍ من الإمبرياليةِ الإقليميةِ.

إنْ فشلتْ واستمرَّ هيمنةُ الغربِ، فالحِلُّ أن تعملَ الدول الإسلاميةُ على بناءِ تحالفاتٍ قويةٍ ذاتِ بُعدٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ مستقلٍّ.

إنْ حاولت إسرائيلُ فرضَ نفوذٍ عبرَ تفتيتِ الدولِ داخليًا، فيجبُ أن تكونَ مواجهةُ ذلك أولويّةً لدى كلِّ الدولِ الإقليميةِ والمنظماتِ القطريةِ.

الخلاصةُ: لا ننتظرُ المصيرَ بل نصنعهُ.
التغيُّراتُ الإقليميةُ ليستْ قَضاءً محتومًا، بل نتيجةُ تفاعلِ قوى؛ والمسارُ النهائيُّ يتحدَّدُ بمن يملكُ الوعيَ، والإرادةَ، والقدرةَ على الفعلِ.

قد تكونُ هذه اللحظةُ تحديًا كبيرًا، لكنها أيضًا فرصةٌ ذهبيةٌ لإعادةِ صياغةِ موقعِ الأمةِ في النظامِ الدوليِّ. ولكنْ ذلك لن يتحققَ إلا بخطةٍ واضحةٍ، عملٍ متواصِلٍ، وقيادةٍ واعيةٍ لا تكتفي بردِّ الفعلِ بل تصنعُ القرارَ.

Exit mobile version