من صفحات التاريخ؛ الخلافة العثمانية! الجزء الرابع و الثلاثون   

حارث عبيدة

حاول بعض الجنود المسلمين تسلق الأسوار باستخدام الحبال، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، إذ كان التاريخ يُسطر على جانبي القتال الشجاعة والبطولة، ولم يكن أحد يستطيع الجزم بمآل هذه المعركة. كان الممر في السور الغربي ضيقًا للغاية، وكلما حاول الجنود المسلمون العبور منه، أمطرتهم الجيوش النصرانية بوابل من السهام، وكانت التلال النارية المصنوعة من مواد حارقة تمنع أي أحد من التوغل داخل ثغرة السور نحو المدينة. كانت ظلمة الليل تزداد تدريجيًا، والعدو كان يقظًا تمامًا، ومع استحالة دخول المدينة من هذا المنفذ، أمر السلطان قواته بالانسحاب، وكأن في ذهنه خطة أخرى.

بذلت القوات البحرية العثمانية كل جهدها لكسر السلسلة الحديدية التي تغلق الخليج والوصول إلى القرن الذهبي، لأن الحصار كان غير مكتمل من تلك الجهة، لكن العدو والبحرية البيزنطية أحبطوا جميع محاولاتهم، بل غرقت بعض سفن المسلمين بسبب نيران مدافع البيزنطيين، وعادت القوات البحرية خائبة.

عزل قائد البحرية العثمانية وشجاعة محمد الفاتح:

بعد هذه المعركة بيومين، أي في 20 أبريل، وقعت معركة بحرية أخرى بين الأسطول العثماني والسفن الأوروبية، التي حاولت دخول الخليج، فهاجمتها البحرية العثمانية. حاول الطرفان إضعاف بعضهما، بينما كانت السفن الأوروبية تتقدم بثبات، وبذل العثمانيون جهدهم لمنع وصول الإمدادات إلى المدينة، لكن السفن الأوروبية مضت قدمًا. كان السلطان واقفًا على شاطئ البحر يشاهد المعركة بين الأسطولين.

أرسل السلطان رسالة شديدة اللهجة إلى قائد البحرية قائلاً:

“إما أن تستولي على هذه السفن أو تغرقها، وإن لم تستطع، فاغرق نفسك، فلا حاجة لنا بعودتك.”

قاتل المسلمون بكل قوتهم، ولكن السفن الأوروبية وصلت إلى هدفها، فاستشاط السلطان غضبًا. وعندما عاد قائد البحرية المدعو “بالطه أوغلي”، عامله السلطان بقسوة شديدة، واتهمه بالجبن والتخاذل.

كان “بالطه أوغلي” مضطربًا جدًا، إذ لا يوجد إهانة أشد على صاحب نخوة من اتهامه بالجبن، فقال:

“يا مولاي! أُضحي بحياتي بكل سرور، ولكن أن أموت ووصمة الجبن تلحق بي، فهذا ما لا أطيقه، لقد بذلت أنا ورفاقي كل طاقتنا، لكننا لم نستطع أن نفعل شيئًا أمام تلك السفن الضخمة.”

وامتلأت عيناه بالدموع، ومسحها بطرف عمامته.

أدرك السلطان محمد الفاتح أن “بالطه أوغلي” بريء، فعفا عنه، واكتفى بعزله، وعين مكانه “حمزة باشا” قائدًا جديدًا للبحرية.

تذكر كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يشاهد المعارك البحرية بشغف شديد، إذ كان يمتطي جواده على شاطئ البحر ويراقب سير المعركة عن كثب. حتى أنه اقترب بجواده من البحر، وصاح بقائد الأسطول بصوت عالٍ، وأشار إليه بيده قائلاً: “انظر إلى قائدك!”، لكن رغم تعزيز الجهود، لم تتحقق النتائج المرجوة.

كانت هناك أسباب عديدة لفشل البحرية العثمانية، من أهمها أن بعض مستشاري السلطان – وعلى رأسهم “خليل باشا” – حاولوا ثنيه عن فتح القسطنطينية، واقترحوا التفاوض مع أهلها بشروط، وفك الحصار والعودة، لكن السلطان كان مصممًا على النصر، فصب نيران المدافع على المدينة من كل الجهات، وفكر أيضًا في طريقة لوصول السفن العثمانية إلى القرن الذهبي.

محمد الفاتح ومناورة عسكرية لا مثيل لها في قسطنطينية:

خطرت في بال السلطان محمد الفاتح فكرة غير مألوفة، وقرر أن ينقل السفن من ميناء “بشكطاش” إلى القرن الذهبي، لكن كيف؟ كأنما هو كرامة أو معجزة!

أصدر أمره بأن تُنقل السفن عبر اليابسة بين الميناءين مرورًا بالجزيرة، لكن العمل يجب أن يتم بسرية تامة وبحذر شديد كي لا تتعرض لهجوم مفاجئ من سفن جنوة. كانت المسافة بين الميناءين قرابة 3 أميال، والطريق لم يكن سهلاً، بل كان مليئًا بالمرتفعات والمنخفضات والتلال الصخرية والوديان.

استدعى السلطان مستشاريه العسكريين، وعرض عليهم رأيه غير المسبوق، وأوضح خطته الهجومية، فوافق الجميع وأشادوا بفكرته. بدأ التنفيذ فورًا، وأمر السلطان بتسوية الأرض، فهبّ الجنود الأبطال إلى تنفيذ الأمر. في ساعات قليلة تم تمهيد الأرض، وجلبت ألواح خشبية تم دهنها بالشحم والزيت، ثم بُسطت على الطريق بحيث تنزلق عليها السفن بسهولة.

سُحبت السفن من مضيق البوسفور نحو الجزيرة، وسارت فوق تلك الألواح المدهونة حتى وصلت إلى نقطة آمنة بعيدة عن مرمى العدو. وعندما حل الليل، أنزلت السفن سرًا إلى مياه القرن الذهبي. بلغ عدد السفن أكثر من 70، وكانت هذه واحدة من أروع المناورات في التاريخ، فلم يسبق لأي سلطان أن نفذ مثلها من قبل.

كان العدو نائمًا في غفلة، بينما كان السلطان محمد الفاتح يشرف بنفسه من الجزيرة على عملية نقل السفن، ونجح في تمريرها خلف خطوط العدو دون أن يشعر بها.

Exit mobile version