من صفحات التاريخ: الخلافة العثمانية! الجزء الخامس والأربعون

حارث عبيدة

قبل فتح القسطنطينية، قام السلطان محمد الفاتح بتوزيع الجوائز على جنوده لتحفيزهم، وأقام مأدبة رائعة. استمر الاحتفال بالفتح ثلاثة أيام؛ كانت المدينة مليئة بالفرح والزينة، وكأنها جنة على الأرض. وكان السلطان بنفسه يوزع الطعام على الجنود، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « سيد القوم خادمهم.”
وفي وسط هذه الأجواء السعيدة، قام الشيخ آق شمس الدين، معلم السلطان الروحي ومرشده، وهو عالم وقور وتقِيّ ومتواضع، بالوقوف وألقى خطابًا على الجيش بنبرة مليئة بالعزيمة: “يا جنود الإسلام! اعلموا وتذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال عنكم:
‘لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش.'”
اطلبوا رضا الله، واحرصوا على أن لا تبذروا غنائم الحرب، بل انفقوها في رفاهية أهل المدينة. أطيعوا سلطانكم وأحبوه.
ثم توجه الشيخ نحو السلطان وقال:
“يا سلطان! لقد رفعت رؤوس العثمانيين جميعًا، أسأل الله أن يجعلك دائمًا مجاهدًا في طريقه.” ثم رفع صوته بالتكبير.

في تلك اللحظة، ألهم الله الشيخ شمس الدين بأن مكان قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه معروف له، وكان يقع قريبًا من باب القسطنطينية. وكان أبو أيوب أول من صلى الجمعة في آيا صوفيا. كان الشيخ قلقًا أن السلطان محمد الفاتح قد يتعرض للغرور بسبب هذه الانتصارات العظيمة.
كان السلطان يكنّ احترامًا وحبًا عميقًا لشيخه. وبعد الفتح، قال للناس:
“فرحتي ليست فقط بسبب فتح هذه القلعة، بل فرحتي الحقيقية تكمن في أن في عهدي يوجد شخص عظيم مثل شيخي ومعلمي، الشيخ آق شمس الدين رحمه الله.”
وفي إحدى المناسبات، قال السلطان لوزيره محمود باشا:
“احترامي لشمس الدين لا يمكن التحكم فيه؛ عندما أذهب لخدمته، يتملكني هيبته وقوته.”
يكتب مؤلف كتاب “البدر الطالع”:
“في اليوم التالي للفتح، ذهب السلطان إلى خيمة الشيخ. كان الشيخ ممددًا ولم يقم عندما وصل السلطان. قبّل السلطان يد الشيخ وقال بتواضع: ‘أريد التحدث إليك على انفراد.’ رفض الشيخ. أصر السلطان عدة مرات، لكن الرد بقي كما هو.
قال السلطان بحزن: ‘عندما يأتي تركي عادي، تمنحه خصوصية، لكنني أنا أصر على ذلك، فلا تعطيه لي؟’
أجاب الشيخ برؤية نافذة: ‘عندما تتذوق لذة الخلوة، ستصبح الملكة والحكومة في عينيك بلا قيمة. وهذا سيؤدي إلى فساد الأمور الحكومية وسخطة الله علينا. في مصطلحنا، تعني الخلوة أن تضع كل شيء في مكانه الصحيح. يجب عليك أن تدير شؤون سلطتك في مكانها المناسب.'”
قدم السلطان هدية قدرها ألف دينار، لكن الشيخ رفض قبولها. وعندما خرج السلطان من الخيمة، سأل أحد مرافقيه:
“ما سبب عدم قيام الشيخ عندما وصلت؟”
أجاب المرافق مبتسمًا:
“ربما شعر الشيخ ببعض الغرور فيك، لأن هذه الانتصارات العظيمة غالبًا ما تؤدي إلى هذه الحالة في قلب الملك. أراد الشيخ أن يكسر غرور نفسك وأن يوقظك من غفلة التفاخر.”

Exit mobile version