وهم الخلافة؛ من حلم السلطة إلى حضيض الانهيار! الجزء السادس

عزیز جلال

أيديولوجية داعش؛ مزيج من السلفية والعنف المطلق

يجب النظر إلى أيديولوجية داعش باعتبارها مزيجًا سامًا من التفسيرات المتطرفة للسلفية والعنف المنظَّم، نشأ في ظل أزمات سياسية تعصف بالشرق الأوسط. كان هذا النظام الفكري، الذي اتخذ مظهرًا دينيًا، في جوهره أداة لتبرير السعي إلى السلطة وممارسة العنف الممنهج.

ارتكزت هذه الأيديولوجية على ثلاثة مبادئ أساسية: العودة إلى السلف الصالح وفق تفسير خاص، تكفير واسع للمخالفين، واعتماد العنف كوسيلة وحيدة لتحقيق الأهداف. هذا المثلث المظلم شكّل الأساس الفكري لجماعة ادّعت إعادة بناء الخلافة الإسلامية، لكنها في الواقع تحوّلت إلى واحدة من أكثر التنظيمات دموية في التاريخ المعاصر.

كان تفسير داعش للسلفية أحد أخطر التحريفات الفكرية، حيث بالغ في التركيز على المظاهر الشكلية للدين وأهمل جوهر التعاليم الإسلامية. ومن خلال انتقاء نصوص تاريخية وإقصاء قرون من التقاليد التفسيرية، قدّمت نسخة قاسية من الإسلام رفضها حتى الكثير من علماء السلفية. في هذه الرؤية المتطرفة، جرى تحريف مفاهيم مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحويلها إلى أدوات للإكراه والعنف.

اعتمدت داعش على روايات ضعيفة وتأويلات اعتباطية لتجعل العنف ليس فقط مشروعًا بل واجبًا في كثير من الأحيان، وعدّت أي معارضة لذلك ضعفًا في الإيمان. وكان هذا التكفير العمود الفقري لأيديولوجيتها. وبتمديد دائرة التكفير، أوجدت الجماعة أساسًا يبرر عنفًا بلا حدود ضد معظم الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية.

فقد شمل التكفير عندهم الشيعة والصوفيين والدروز والمسيحيين والإيزيديين وحتى السنة الذين لم يشاركوا عقيدتها، واعتبروا جميع هؤلاء كفارًا أو مشركين. هذا المنطق أتاح لداعش أن تبرر كل جريمة بالاستناد إلى “أحكام الحرب على الكفار”. اللافت أن هذا المنطق شمل أيضًا جماعات جهادية أخرى مثل القاعدة، التي اتُّهمت بالانحراف عن “الجهاد الحقيقي”.

تكشف هذه الدائرة الواسعة من التكفير عن الطبيعة الإقصائية والحصرية لأيديولوجية داعش، التي لم تتحمل أي صوت مخالف. فالعنف عندها لم يكن مجرد وسيلة بل غاية في ذاته. وعلى عكس كثير من الجماعات المتمردة التي تعتبر العنف أداة لتحقيق أهداف سياسية، نظرت داعش إلى العنف كعرض للقوة والعظمة. الإعدامات العلنية، قطع الرؤوس، إحراق الأسرى، وغيرها من الفظائع لم تكن سوى جزء من “استعراض القوة” للحفاظ على الهيبة عبر الرعب والإرهاب.

كان لهذه الاستعراضات العنيفة هدفان رئيسيان: أولًا، بث الرعب في صفوف الأعداء، وثانيًا، جذب العناصر المتطرفة التي تستلذ بمثل هذه المشاهد. والأخطر أن فكر داعش اعتبر هذا العنف ليس مدانًا بل علامة على التقوى والحماسة الدينية. هذا الانقلاب الأخلاقي كان من أخطر أدواتها الفكرية، إذ منح أتباعها تبريرًا لارتكاب أبشع الجرائم بلا أي شعور بالندم.

إن مزيج العناصر الثلاثة: السلفية المتشددة، التكفير الواسع، والعنف المطلق، أطلق سلسلة من المجازر التي اجتاحت الشرق الأوسط لسنوات. ورغم ضعفه الفكري وتناقضاته الكثيرة، جذب فكر داعش العقول البسيطة نظرًا لسهولته وقدرته على تقديم أجوبة مباشرة على الأسئلة المعقدة.

ومن خلال استغلال المشاعر الدينية واستخدام الإعلام الحديث بمهارة، استطاعت الأيديولوجية استقطاب آلاف الأتباع حول العالم. لكن في النهاية، حالت محدوديتها وجفافها الفكري دون بناء قاعدة اجتماعية واسعة، وغرقت في عنفها الخاص. واليوم، بعد انهيار “خلافتها” المزعومة، لم يخلّف إرث داعش سوى الدمار والقتل والكراهية.

Exit mobile version