من صفحات التاريخ؛ الخلافة العثمانية! الجزء السادس و الأربعون

حارث عبيدة

ذلك العالم الكبير الجليل الذي تولّى تربية محمد الفاتح الإيمانية على أساس الإسلام والإحسان، لم يكن مجرد فقيه وصوفي عارف، بل كان أيضاً صاحب خبرة واسعة في علوم النبات والطب والعلوم الطبيعية. كان في عصره من أبرز العلماء، وقد بلغ في علم النباتات ومعالجة الأمراض بالأعشاب والأسمدة مرتبة عالية حتى شاع بين الناس القول: “النباتات تتحدث مع آق شمس الدين”.

الإمام الشوكاني يصفه قائلاً: “كان طبيب القلوب كما كان طبيب الأبدان. وقد اشتهر أنه كانت الأشجار والأعشاب تكلمه وتقول له: أنا دواء لمرض كذا!” وعند فتح القسطنطينية ظهر أثر بركته وفضله، فقد كان كما يعتني بمعالجة الأمراض النفسية يهتم أيضاً بعلاج الأمراض البدنية.

وقد أولى الشيخ شمس الدين اهتماماً خاصاً بدراسة الأمراض السارية التي كانت سبباً في موت آلاف البشر آنذاك. فألف كتاباً بالتركية بعنوان مادة الحياة، وفيه كتب: “من الخطأ الاعتقاد أن المرض يظهر فجأة، بل الحقيقة أنه ينتقل من شخص لآخر على نحوٍ معدٍ. تلك الديدان التي تنشر المرض صغيرة جداً لا تُرى بالعين المجردة، لكنها حية”.

وهكذا وضع الشيخ شمس الدين نظرية “الجراثيم” (Microbe) في القرن الخامس عشر الميلادي، وكان أول من طرح هذا الرأي قبل أن يُعرف المجهر (Microscope). وبعد أربعة قرون وُلد العالم الفرنسي لويس باستور الذي توصل في أبحاثه في الكيمياء والبيولوجيا إلى نفس النتائج التي سبق إليها الشيخ شمس الدين.

كما بحث الشيخ آق شمس الدين رحمه الله في موضوع السرطان ودوّنه في كتبه. ومن أبرز مؤلفاته في الطب: مادة الحياة وكتاب الطب باللغتين العثمانية والتركية. وله في مختلف المواضيع سبعة كتب بالعربية منها: حل المشكلات، الرسالة النورية، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بحرام ولي.

وعندما شعر بالحاجة إلى العودة إلى موطنه الأصلي، رجع إلى “كونيوك” موطنه، رغم إصرار السلطان على بقائه في إسطنبول (القسطنطينية سابقاً). وتوفي رحمه الله سنة 863هـ / 1459م. نسأل الله تعالى أن يغمره برحمته ويغفر له ويرضى عنه.

إنها سنة إلهية أن لا يخرج قائد رباني ولا فاتح عظيم إلا وقد نهل من علم العلماء الربانيين وتربى على أيديهم. وشواهد ذلك كثيرة؛ ففي دولة المرابطين كان عبد الله بن ياسين مربي يحيى بن إبراهيم، وفي الدولة الأيوبية كان القاضي الفاضل من أبرز من أثر في شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي. وهذا الكتاب يسلط الضوء على الدور العظيم الذي أداه الشيخ خواجة شمس الدين في تربية محمد الفاتح وصناعة شخصيته.

نسأل الله تعالى أن ينزل رحماته على هذه الأمة المباركة، وأن يتقبل جهود علمائها، ويرفع ذكرهم في الصالحين. ولقد كان فتح القسطنطينية حدثاً عظيماً في تاريخ العالم، وفي تاريخ أوروبا خاصة وعلاقتها بالإسلام، حتى اعتبر المؤرخون الأوروبيون ذلك الفتح نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث.

Exit mobile version