ظهور داعش؛ أفول القيم الإنسانيّة!

أجمل جلال

إنّ تنظيم داعش الذي يقدّم نفسه تحت عنوان «الدولة الإسلاميّة»، ليس في الحقيقة إلّا جماعة خارجة عن كلّ المبادئ البشريّة والقيم الإسلاميّة. تصرفاته لا تُمثّل الشريعة، ولا تُجسّد الإنسانيّة، بل هي معرضٌ للرعب وسفك الدماء والكذب والظلم. هذا التنظيم لم يتّخذ من الإسلام إلّا اسماً وشعاراً، أمّا روح الإسلام الرحمانيّة فقد طمسها تماماً، فأينما وطئت أقدامهم، سفكوا الدماء، ودمّروا المدن، واستعبدوا النساء والأطفال، وطبعوا على جبين البشريّة وصمة عارٍ من الإهانة والإذلال.

خلفيّة ظهور داعش
ظهر تنظيم داعش بين عامَي 2013 و2014 في خضمّ الحروب الدائرة في العراق وسوريا، وقد وفّر له اضطراب الأوضاع، وضعف الحكومات، والصراعات الطائفية، والتدخّلات الخارجيّة فرصةً للسيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي. وفي عام 2014 احتلّ مدينة الموصل العراقيّة وأعلن «الخلافة»، ومن هنا بدأ نفوذه، وبدأت معه أبشع الجرائم بحقّ البشريّة، فكلّ مدينةٍ سقطت تحت سيطرته تحوّلت إلى بحر من الدم.

مجازر ضدّ الأبرياء
لإرهاب الناس وإظهار قوّته، أقام داعش مسرحاً للموت والقتل. كان عناصره يقطعون رؤوس المدنيّين، ويعلّقونها عند الطرقات، وينتجون مقاطع مصوّرة مليئة بتلك الفظائع وينشرونها على الملأ.
وفي مدن مثل الموصل والرقة والفلوجة ودير الزور وغيرها، قُتل مئات المدنيّين لمجرّد مخالفتهم الفكريّة للتنظيم.
وبحسب تقارير الأمم المتّحدة، قُتل ما يزيد عن 30 ألف مدني بين عامَي 2014 و2017، وجُرح نحو 70 ألفاً آخرين. وكان التنظيم يقرّر القتل بناءً على الإيمان أو المذهب أو الانتماء القومي، ويبرّر كلّ ذلك تحت شعار «الخلافة».

استعباد النساء والفتيات
أكثر صور ظلم داعش إيلاماً كانت معاملته للنساء، وخصوصاً نساء وفتيات الطائفة الإيزيديّة في العراق اللواتي تعرّضن للاستعباد الجنسي. كان عناصر التنظيم يختطفون النساء من البيوت والقرى ويبيعونهنّ في الأسواق. وقد اشتهرت مدينة الرقة كسوقٍ للسبايا.
وكان العمر واللون والجمال معياراً لتحديد الثمن. وبعض النساء قُسّمن بين عدّة رجال، وبِيعَت فتيات صغيرات في سنّ الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. هذه الأفعال ليست فقط إهانة للبشريّة، بل مخالفة صريحة لكلّ المبادئ الدينيّة. وقد روت بعض الناجيات أنّ عناصر داعش كانوا يبرّرون جرائمهم تحت مسمّى «جهاد النكاح»، ويصفون كلّ مخالفٍ لهم بـ«المرتدّ».

غسل أدمغة الأطفال
أدرك داعش أنّ استمرار حربه مرهونٌ بتغيير الأجيال، فأنشأ معسكرات «تدريب» خاصّة بالأطفال، يُجبرون فيها على تعلّم القتل وصنع القنابل وذبح البشر.
وكانوا يزرعون في الأطفال روح الانتقام بدلاً من الرحمة، ويغرسون العداوة بدلاً من المحبّة. وفي كثير من المقاطع المصوّرة، يظهر أطفالٌ في العاشرة من أعمارهم وقد وُضعت أيديهم على جثث القتلى ليتعوّدوا على رؤية الدم. وهكذا سعى التنظيم إلى صناعة جيل قاسٍ يشكّل كارثة إنسانيّة للمنطقة بأسرها.

استغلال اسم الدين
لقد أساء داعش إلى الإسلام إساءةً عظيمة، فحرّف آيات القرآن الكريم عن مقاصدها لخدمة أهدافه. ولم يكن لروح الإسلام الرحيمة، ولا لمبادئ العفو واحترام الإنسان، أيّ حضور في تفسيراته.
وكلّ من خالفه سُمّي «كافراً» أو «مرتدّاً»، حتى المسلمون الذين رفضوا عنفه؛ فقد عدّهم التنظيم مرتدّين. وهكذا تحوّلت أفعال داعش إلى ذريعة لأعداء الإسلام لربط اسمه بالرعب والوحشيّة.

تدمير التراث الإنساني
لم يكتفِ داعش بقتل البشر، بل دمّر التراث الإنساني أيضاً. ففي العراق، فجّر المواقع الأثريّة في نينوى والحضر ونمرود وغيرها. وفي سوريا دمّر آثار مدينة تدمر، التي كانت كنزاً فريداً من الحضارة الإنسانيّة. لم يكن الهدف مادياً فقط، بل كان محاولةً لمحو الهويّة الحضاريّة ومحو الذاكرة الثقافيّة للتاريخ. وقد عُدّت هذه الأعمال مثالاً صارخاً على الإبادة الثقافيّة.

ردود الفعل والنتائج العالميّة
عندما ظهرت وحشيّة داعش للعالم، تحرّكت الأمم المتحدة وكثير من الدول والمنظّمات الدوليّة. وبدأت العمليّات العسكريّة المشتركة بين الجيشين العراقي والسوري، إلى جانب التحالف الدولي، لتفكيك معاقل التنظيم تدريجياً. وفي عام 2019 سقط آخر معاقل داعش في منطقة «الباغوز» بسوريا.

الآثار الفكريّة والنفسيّة
لم يدمّر داعش الأرواح فقط، بل مزّق وحدة الأمّة الإسلاميّة. وبسبب جرائمه، صار كثير من شعوب العالم ينظرون إلى الإسلام نظرة ريبة، وهو ما مثّل كارثة فكريّة للمسلمين. فقد جُرحت عقول الأبرياء، وانتشر الخوف من اسم الدين، وتراجعت القيم القائمة على السلام والرحمة.

خاتمة
لقد ترك داعش ندبة سوداء على جبين الإنسانيّة جمعاء، لا على العالم الإسلامي وحده. فجرائمه من استعباد النساء، وتجنيد الأطفال، وقتل البشر، وتدمير التراث الثقافي، وتحريف الدين، كلّها جرائم ترفضها الفطرة الإنسانيّة رفضاً قاطعاً.
واليوم أصبحت وثائق جرائم داعش جزءاً من الذاكرة التاريخيّة للبشريّة، وأدلة مهمّة في المحاكم الدوليّة. أمّا الدرس الأكبر من هذه المأساة فهو أنّ التطرّف—تحت أيّ اسمٍ أو شعار—عدوّ للإنسانيّة. فالإسلام دين الرحمة والعدل والإنصاف، أمّا داعش فهو أخطر تشويهٍ للإسلام، ولا يمثّل إلّا الجهل والظلم وحبّ السلطة.

Exit mobile version