داعش:عودة الخوارج! الجزء الثالث

أحمد عزيز

في بدايات الإسلام، وبعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما كانت الجماعة المسلمة الأولى لا تزال في طور التكوين، حدثت واقعة مذهلة ومثيرة للتأمل تركت آثارها ممتدة حتى يومنا هذا.
هذه الواقعة كانت تمثل في ظهور جماعة عُرفت لاحقًا باسم “الخوارج” قصة نشأة هذه الجماعة تمثل رواية تكشف كيف يمكن لاختلاف وجهات النظر والتفسيرات الدينية أن تؤدي إلى الصراع والاصطدام.

يجب البحث والتتبع عن جذور هذه الحادثة في معركة صفين، حين تصادمتْ جيشان إسلاميّان عظيمان. ولتجنب إراقة الدماء قُدِّم اقتراح بالتحكيم، فرفضته إحدى الفِرَق بحجّة: «لا حكم إلا لله» — أي أن الحكم لا يجوز أن يُسند إلى بشر. سرعان ما انفصلت تلك الفرقة عن الجيش الأصلي، وظلّت مقتنعةً بأنّها وحدها على الحقّ، وأنّ غيرها قد خرجَ من دائرة الإيمان.

ارتكزت الخصائص الفكريّة لهذه الفرقة على ثلاث دعائم أساسيّة:

أولاً: الاعتقاد بأنّ كلّ مرتكبٍ للمعصية يُعَدّ كافراً.
ثانياً: زعمُهم أنّ لهم الحقّ في الخروج على كلّ حاكمٍ يرونه قد انحرف عن جادّة الحق.
ثالثاً: تبنّيهم رؤيةً دينيّةً ساذجة وسطحية، اكتفَت بالتمسّك بظواهر الآيات والروايات دون الخوض في أعماق المعاني والمقاصد الإسلاميّة.

هذا السلوك أرْسَى أساساً فكريّاً بالغ الخطورة امتدّت آثاره عبر التاريخ؛ إذ اعتبر الخوارج أنفسهم المسلمين الحقّ وحدهم، واختاروا نهج الإقصاء للآخرين مقروناً بالعنف والصدام. وقد غدا هذا المسلك نموذجاً تحتذي به جماعات ظهرت في القرون اللاحقة وانتهجت الأسلوب ذاته.

يجدر التنويه إلى أنّ الخوارج كانوا في بداياتهم يُعَدّون زُهّاداً عُبّاداً وأناساً متديّنين؛ غير أنّ ضعفهم في الفهم العميق للدين، وهيمنة العاطفة الدينيّة الجافّة على حساب العقلانيّة، ساقهم إلى هاوية التطرّف والعنف. وهذه الأزمة تُشكّل إنذاراً دائماً لكلّ الجماعات الدينيّة، مبيّنةً كيف يمكن أن تتحوّل مظاهر المذهب الخارجي أحياناً إلى غطاءٍ لسوء الفهم والتعصّب.

إن الإلمام بهذا الجزء من التاريخ الإسلامي يمثل مفتاحًا لفهم العديد من الأحداث المعاصرة. فالأمثلة التي تَصرف الخوارج بناءً عليها تُظهر كيف يمكن للتفسير السطحي للدين أن يصبح أداة لتكفير الآخرين وتبرير العنف. إن التعرف على هذا النمط له أهمية كبيرة في تحليل الجماعات المتطرفة اليوم، إذ يكشف أن هذه الفكرة ليست ظاهرة جديدة، بل لها جذور تاريخية عميقة.

عند التأمّل في السمات السلوكيّة للخوارج يبرز ملمح دقيق بالغ الأهميّة: فهذه الجماعة، رغم ادّعائها التمسّك بأحكام الدين، كانت عمليّاً تُحدِث انقساماً وتمزّقاً في الجسد الإسلامي. فقد اعتمدت على قراءة صارمة جامدة للنصوص الشرعيّة، لا تقبل أيّ قدرٍ من المرونة، ولم تكن تحتمل مخالفةً لآرائها. لذلك كانت تُسارع إلى إقصاء معارضيها من المجتمع، وتشيع أجواء الخوف بدل الطمأنينة الفكريّة، وهو ما أفضى في النهاية إلى إضعاف الوحدة الاجتماعيّة.

ومن النقاط اللافتة للانتباه ذلك التناقض الصارخ بين ادّعاءات الخوارج السامية وسلوكهم العملي؛ فبينما كانوا يزعمون أنّهم حماة العدل والحق، كانوا في الواقع يدوسون الحقوق الأساسيّة للآخرين بممارسة العنف والجور والظلم.

إنّ هذا السلوك المزدوج يكشف لنا عمق الأزمة الفكريّة والأخلاقيّة لديهم. وتجربة الخوارج التاريخيّة تحمل إلينا درساً بليغاً: كيف يمكن أن تتحوّل دعوى التديّن إلى أداة لتبرير العنف والظلم. وهو درسٌ جوهريّ ينبغي أن تعيه الأجيال الحاضرة والقادمة على السواء.

Exit mobile version