الأبعاد الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى!

نعمان سعيد

في سبتمبر 2023 بلغ غرور وغطرسة نتنياهو ذروته، حيث عرض «خريطة الشرق الأوسط الكبرى» أمام الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة.

لم يمض وقتٌ طويل حتى فوجئ بإعلان قائد كتائب القسام العامة الشهيد محمد الضيف عن عملية «طوفان الأقصى»، في إطارٍ جديد من المقاومة الإسلامية التي كسرت كبرياء الكيان الصهيوني الغاصب، وزعزعت ميزان القوة، وفتحت بابًا جديدًا في الصراع بين العرب والصهاينة، بهدف تأسيس مرحلة استراتيجية جديدة على صعيد العلم والأمن والسياسة والعلاقات الإقليمية والدولية.

في صباح السابع من أكتوبر 2023 واجه الشرق الأوسط زلزلة عسكرية غير مسبوقة. ففي تلك اللحظة نفّذت كتائب القسام في غزة عمليات عسكرية واسعة ومنسقة سُمّيت «طوفان الأقصى». بدأت تلك العمليات بسلسلة من الهجمات الصاروخية التي استهدفت داخل إسرائيل والمستوطنات والمراكز العسكرية المحيطة بغزة.

تلتها موجات من الهجمات البرّية التي نفّذها مجاهدو القسام وسرايا القدس وغيرها من الفصائل، حيث اجتاز مئات المجاهدين الحدود من قطاع غزة واقتحموا داخل الأراضي المحتلة، واستطاعوا فتح أكثر من عشرين مركزًا وموقعًا عسكريًا، وألحقوا خسائر فادحة بصفوف جيش العدو، ودمروا مركباته، وأسروا المئات من الجنود والعناصر الاستخباراتية.

كانت عملية «طوفان الأقصى» خطوة مدهشة تمامًا من حيث التوقيت، والشكل، والاختراق الاستخباراتي غير المسبوق؛ إذ على الرغم من أن الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية متقدمة للغاية، إلا أنها عجزت عن استشعار الخطر القادم، ولم يعثر نظامها الاستخباراتي على أي إشارة جدية تنبئ بقدوم هذه الهزة الأمنية والعسكرية الكبيرة. وهكذا انهار الغرور الأسطوري لجهاز الأمن الإسرائيلي «الموساد»، الذي لطالما تباهى به النظام الصهيوني أمام العالم.

الجوانب الأمنية والاستراتيجية

لم تكن عمليات «طوفان الأقصى» مجرد رد فعل على جرائم الاحتلال في الأقصى وغزة، بل كانت عملية استراتيجية عميقة وطويلة الأمد، جرى التخطيط لها بعمق، وبُنيت على رؤية استراتيجية لحركة المقاومة الإسلامية حماس. جاءت هذه العملية بهدف إعادة صياغة قواعد وتكتيكات الصراع مع العدو، ونقل مسرح الحرب من حالة دفاعية إلى هجومٍ انتقامي ومرحلة المبادرة.

كما حملت هذه العمليات أبعادًا سياسية ورسائل عديدة على الصعيدين الإقليمي والدولي. أظهرت على الصعيد الأمني هشاشة النظام الأمني الإسرائيلي رغم كل ادعاءاته، وأثبتت عسكريًا أن الفصائل غير النظامية، عبر تكتيكات المباغتة والهجمات المفاجئة، قادرة على إحداث توازنٍ رادعٍ في الحرب.

سياسيًا هزّت هذه العمليات الصورة الزائفة عن العدو كقوة لا تُقهَر، وقلبت موازين حسابات الأنظمة العربية التي راهنت على «السلام والتطبيع مع إسرائيل». وعلى الصعيد الإعلامي والنفسي نجحت «طوفان الأقصى» في إحياء ثقة الأمة بنفسها، وهدم جدار الخوف الذي بنته عقود من الدعاية لصالح الدولة الإسرائيلية.

التغييرات الإقليمية بعد «طوفان الأقصى»

أحدثت عملية «طوفان الأقصى» زلزالًا عميقًا في بنية النظام العربي الإقليمي، إذ كشفت أن التحالفات التي بُنيت على أساس «تطبيع العلاقات» مع الكيان الصهيوني هشة للغاية، وأظهرت أن الأنظمة التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل وجدت نفسها في موقفٍ حرج أمام شعوبها الغاضبة.

كما أعادت هذه العمليات القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العربي والإسلامي والدولي بعد سنوات من التراجع بسبب ضغوط التطبيع والمشاكل الداخلية في بعض الدول العربية.

على الصعيد العالمي قوَّضت هذه العمليات صورة إسرائيل كحليفٍ موثوق، وأظهرت أنها حتى داخل غزة المحاصرة عاجزة عن حماية نفسها من فصائل المقاومة. كما دفعت هذه الأحداث القوى الكبرى إلى إعادة تقييم مواقفها وحساباتها بشأن الصراع العربي–الصهيوني، فيما وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مأزق استراتيجي لم تستطع أن تمنع الانفجار ولا أن تتحكم في نتائجه الإقليمية.

البُعد الثقافي والروحي لـ«طوفان الأقصى»

لم تكن عمليات «طوفان الأقصى» حدثًا عسكريًا أو سياسيًا فحسب، بل حملت رسالة ثقافية وروحية للأمة الإسلامية. أعادت هذه العمليات روح الجهاد والمقاومة إلى القلوب، وأثبتت أن الأمة قادرة على الصمود رغم اختلال ميزان القوى.

كذلك أظهرت هذه العملية دور الإنسان المؤمن، وأكدت أن بناء الإنسان المقاوم أهم من كل الأسلحة والآلات، فكل نجاح مادي لا قيمة له دون إرادة صلبة وعزيمة لا تُكسر.

أجبرت هذه العمليات العالم على إعادة النظر في مفاهيم القوّة، والنصر، والسرعة، والدفاع، وأكدت أن النصر يبدأ من العزيمة والنية قبل أن يتحقّق على الأرض. لهذا تُعدّ «طوفان الأقصى» مدرسةً ومعهدًا متكاملًا في قيم الجهاد، والصبر، والثبات، والإيمان، تشمل جوانبها العسكرية، والأمنية، والسياسية، والإعلامية، والنفسية، والروحية.

الخاتمة

بعد مرور عامين على «طوفان الأقصى» يمكن القول إن هذه العمليات شكّلت منعطفًا استراتيجيًا وثقافيًا بارزًا في التاريخ المعاصر؛ إذ لم تقتصر آثارها على الميدان العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل الساحة السياسية والدبلوماسية والإعلامية والنفسية والروحية. كما أجبرت القوى المنفّذة والدول الكبرى على إعادة حساباتها، وقدّمت دروسًا في التخطيط الاستراتيجي لإدارة الصراعات، وأبرزت دور الإنسان المقاوم المؤمن في تحقيق النصر والنتائج.

Exit mobile version