التناقض في قيادة داعش
في ذروة قوّتها، زعمت جماعة داعش المتطرفة أنّها تحيي الخلافة الإسلامية، لكنها أغرقت العالم في الدماء والرعب. غير أنّ هذا المشهد المنظّم ظاهريًا كان يخفي وراءه بنيةً مضطربة مليئةً بالتناقضات، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى انهيارها. في هذا المقال، نتناول ركيزتين أساسيتين لذلك الانهيار: هروب قادة داعش ومقتلهم، ثم صراعات النفوذ بين الأجنحة الداخلية.
سقوط القادة
من ادّعاء الخلافة إلى الهروب في الصحارى، هكذا كانت نهاية أبي بكر البغدادي، الذي نصب نفسه «خليفة المسلمين»؛ ففي عام ۲۰۱۹، وقع في كمينٍ بريف إدلب بسوريا، ولما ضاق عليه الخناق فجّر نفسه بحزامٍ ناسف، ليكون موته نهايةً رمزيةً لرجلٍ حكم يومًا بالظلم والطغيان على ثلث أراضي العراق وسوريا. وقد شكّل هلاك هذا المتوهّم المستبد بداية سقوط قيادة داعش.
الهروب بدلًا من الثبات
تُظهر مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كيف كان قادة داعش يتركون أتباعهم في الصحارى في أحلك اللحظات، ويفضّلون الفرار في سياراتٍ مجهّزةٍ بدلًا من الثبات في ساحات القتال، وهو ما جعل كذبتهم الكبرى «الوفاء حتى الموت» مثارًا للسخرية.
الاغتيالات المتتالية للخلَف
بعد مقتل البغدادي، قُتل أيضًا أبو الحسن الهاشمي القرشي وأبو الحسين الحسيني القرشي في عملياتٍ نوعيةٍ. وفي كل مرةٍ كان يُقتل فيها «خليفة» من خلفاء هذا «الخلافة بلا خليفة»، كانت الفوضى وعدم الاستقرار يتفاقمان بين عناصر التنظيم وأنصاره المتوهّمين، حتى بلغ الأمر أن بقيت الجماعة شهورًا بلا قائدٍ معلنٍ رسميًا، فكانت بالفعل «خلافةً بلا خليفة».
وقد فضحت هذه الفوضى الزائفة زيف «الخلافة» المزعومة التي كانت تدّعي النظام الإلهي، لكنها أخفقت حتى في أبسط مبادئ الإدارة.
صراع النفوذ
رغم بيانات الوحدة المعلنة تحت راية الخلافة، كان داعش ساحةً لصراعاتٍ داخليةٍ بين الفصائل. ويكشف اعترافٌ لأحد قادتها الكبار، أبي رُقية الأنصاري، حقائق كثيرة، منها:
١- الانقسام بين العراقيين والسوريين:
كان النزاع على مصادر التمويل والسيطرة الاستراتيجية مشتعلًا باستمرار بين الفصيل العراقي بقيادة أبي علي الأنباري والفصيل السوري بقيادة أبي عمر الشيشاني. وبحسب أبي رُقية، بلغ الصراع حدّ الاشتباكات المسلحة أحيانًا.
٢- التنافس مع جبهة النصرة:
بعد انفصال جبهة النصرة عن داعش، انضمّ العديد من القادة السوريين إليها، حتى إنّ البغدادي خطّط لاغتيال زعيم النصرة، لكنه فشل.
٣- التشرذم بعد موت البغدادي:
بعد مقتله، دخل التنظيم مرحلةً من الانقسام والانشقاق، فتفكّكت الجماعة المركزية إلى عدّة فصائل عملت باستقلاليةٍ دون قيادةٍ موحّدةٍ أو مركزيةٍ.
لماذا انهارت قيادة داعش؟
من خلال قراءة ما سبق، يبرز في ذهن القارئ سؤالٌ جوهري: لماذا انهارت قيادة هذا التنظيم المتطرّف؟
١- غياب الشرعية الحقيقية:
من أبرز أسباب هزيمة داعش وانهياره افتقاره إلى الشرعية الحقيقية؛ إذ لم يكن حكمه قائمًا على بيعةٍ حقيقيةٍ من الناس، بل على الترهيب والقهر، وحينما زال الخوف، زالت معه «الولاءات».
٢- الاعتماد الشخصي على البغدادي:
كان تنظيم داعش يعتمد اعتمادًا مفرطًا على شخص البغدادي، فلما هلك، سقط معه جزءٌ كبيرٌ من كيانه. ومن الواضح أن الهيكل القيادي الذي يتمحور حول فردٍ واحدٍ يخلّف فراغًا لا يُعوّض عند موته، وهذا ما اختبره التنظيم فعليًا.
٣- الطمع في السلطة مع غياب أيديولوجيا ثابتة:
حينما تحوّل «الخلافة» في ذهن قادة داعش وأنصاره من هدفٍ ربّاني إلى وسيلةٍ للتسلّط والاستئثار بالنفوذ، اشتعل الصراع بين الفصائل لنيل حصةٍ أكبر، وأدّى هذا الطمع إلى سقوطهم في هاوية الفناء. كما جعل غياب أيديولوجيا ثابتةٍ ومستدامةٍ قادتهم أسرى شهوة الموت في دروبٍ مسمومةٍ من العنف والخراب.
وفي الختام يتّضح أنّ «داعش» لم يكن خلافةً حقيقيةً، بل كان دوّامةً من العنف والفوضى، غرقت فيها حتى «خلفاؤهم» المزيّفون أنفسهم!