نشر الشائعات في المجتمعات، يمزِّق وحدة الصف، ويزرع الشك في القلوب، ويضعف الثقة بين أفراد الأمة، بل ويفتح الطريق أمام الأعداء لتحقيق مآربهم.
إنها نارٌ إذا لم تُطفأ في أوانها، أحرقت ثبات الأمة وتصير وبالا على روحها الجامعة، وهي في حقيقتها من أدوات الحرب الفكرية يُضعف بها البنيان الإيماني للأمة.
يأمرنا القرآن الكريم بالتثبّت من الأخبار قبل تصديقها أو قبولها لأن نقل الأنباء بلا تحقق سبب للفساد، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا…﴾ (الحجرات: 6)
فعندما يعجز الأعداء عن كسب المعارك بالسلاح، يشنّون حرباً جديدة على الفكر والوعي، يزرعون الخوف والريبة والنفاق داخل صفوف الأمة، عبر وسائل الدعاية، ونشر الإشاعات المغرضة والمختلقة هدفهم زعزعة الإيمان، وضرب الثقة بالقيادة التي ولَّدت الوحدة، وهي معركة تُخاض بوسائل الإعلام والكلمات والأفكار بدل الأسلحةً، لقد أمر الإسلام بالتحقق من صحة الكلام، وحذّر من نشر الأحاديث بغير علم أو مسؤولية، فقال النبي ﷺ: «كفى بالمرء كذباً أن يُحدث بكل ما سمع.» (رواه مسلم)
وهذا الحديث يضع للمسلم ميزاناً دقيقاً في التعامل مع الأخبار، فليس كل ما يُسمع يُروى؛ لأن نقل الكلام دون تمحيص سبب للبلبلة، وتمزيق الصفوف، وبذر الفتنة بين المؤمنين.
كل شائعة تُطلق لهدف، وأخطر أهدافها زرع الشك تجاه النظام والقيادة، وإضعاف الصلة بين الأمة وإيمانها ووحدتها. إن العدو لا يسعى إلى إسقاط الأمة من الخارج فقط، بل يعمل على هدمها من الداخل. وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ…﴾ (النور: 19)
يفسر معنوية نموذج كل من يفرح بانتشار الأخبار الفاحشة والشائعات بين المؤمنين.
نشر الشائعات لا تُحدث الفوضى الفكري فحسب بل تُهدم أساس الـثقة والوحدة للأمة.
إن نار الشائعات أعظم من خطر الحروب العسكرية، لأنها حرب تستهدف القلوب والعقول. وإذا غاب الوعي، صار الناس أدواتٍ في تنفيذ مقاصد العدو دون أن يشعروا.
المؤمن الحق هو من يجمع بين نور العقل ونور الإيمان، فلا ينخدع بالعواطف، ولا يصدق كل ما يسمع. إنه يزن الأخبار بميزان التقوى والعقل، فينظر إلى مصدرها وغايتها، لئلا يقع فريسة الخداع والكذب.
وقد رسم القرآن الكريم منهجاً واضحاً في هذا الباب، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ…﴾ (النساء: 83)
هذا التوجيه الإلهي العظيم يُرسّخ في المؤمن مبدأ المسؤولية الفكرية والأخلاقية، أن لا ينشر خبراً قبل التحقق منه، خصوصاً ما يتصل بأمن الأمة أو نظامها أو قيادتها. فالإيمان لا يعني الغفلة، بل يعني الوعي والحكمة والتصرف المسؤول.
تُشير الآية إلى حقيقتين واضحتين:
1. «أذاعوا به» – أي سارعوا بنشر الخبر دون تمحيص، وهو سلوك الجاهلين المتسرعين.
2. «ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر» – أي أن القضايا الحساسة ينبغي أن تُعرض على أهل العلم والرأي والخبرة قبل أن تُذاع بين الناس.
بهذا يتضح أن توازن الأمة واستقرارها يقوم على التدبر والمشاورة الدقيقة، لا على الاندفاع وراء الشائعات، فالمؤمن ينبغي أن يكون حارساً للنظام الفكري، لا مروجاً للفوضى.
إن الإسلام لا يريد من المسلم أن يكون مقلداً أو ناقلاً بلا وعي، بل يريد منه أن يكون منارة عقل وصدق وأمانة. فكل كلمة تُقال، وكل خبر يُنشر، إما أن يخدم الحق أو يعين الباطل، والمسلم مسؤول عن اختياره.
وللإعلام دور خطير في هذه المعركة؛ لأنه يصوغ العقول ويشكّل الرأي العام، فإذا تورّط الإعلام في بث الشائعات دون تثبّت، كان خائناً للأمانة، ومفسداً لوعي الأمة. أما الإعلام الإسلامي الحق، فينبغي أن يُبنى على الصدق والأمانة ومصلحة الأمة، لا على أجندات خارجية أو أهواء شخصية.
والمؤمن الواعي حين يسمع خبراً مشبوهاً، لا يندفع، بل يزنه بنور التقوى والعلم، ويتثبت من مصادره، ويحذر من أن يكون صدىً لدعاية الباطل. فذلك هو رمز النضج الإيماني والوعي الفكري.
إننا أمة الإيمان والعزة والفكر المستنير، فلنقف صفاً واحداً أمام كل شائعة أو دعاية مغرضة، بعقلٍ راشد وإيمانٍ ثابت.
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا…﴾ (آل عمران: 103)
فالتمسك بحبل الله هو سبيل النجاة من التفرّق والضياع. ومقاومة الشائعات ليست مجرد واجبٍ عقلي أو اجتماعي، بل هي عبادة إيمانية تعبّر عن صدق الانتماء لهذا الدين العظيم