من صفحات التاريخ؛ الدولة العثمانية! الجزء الثامن والخمسون

حارث عبيدة

إعداد الجيشين البرّي والبحري

بعد عهد السلطان أورخان أصبح للعثمانيين جيشٌ منظم ذو بنية واضحة، وتعاقب السلاطين من بعده على تقويته وتطويره. وقد أولى السلطان محمد الفاتح اهتماماً خاصاً بإعداد الجيش تدريباً وتنظيماً وتسليحاً، إذ كان يرى أنّ الجيش هو عماد الدولة وركنها الأوثق. لذلك أعاد هيكلة الوحدات العسكرية، ودرّبها تدريباً حديثاً، وعيّن قائداً لكل فرقة، بينما كان القائد العام يتلقى أوامره مباشرة من الصدر الأعظم، الذي فوّض إليه السلطان صلاحيات وزير الدفاع.

وفي عهد الفاتح ازدادت القوة العسكرية رسوخاً، فقد أنشأ معامل وصناعات عسكرية لإنتاج حاجات الجيش كافة: من الملابس والسروج وسائر لوازم الخيل، إلى مصانع الأسلحة والتجهيزات القتالية. كما بنى الحصون والتحصينات في المواقع الاستراتيجية. وتألّف الجيش من فرق الفرسان والمشاة والمدفعية والقوات المساندة، ونالت جميعها قدراً كبيراً من التدريب والانضباط، وزُوّدت بأحدث الأسلحة المتوافرة في عصرها.

أمّا فرقة الخدمة فكانت تتولى إعداد الذخائر والبارود والمؤن، والعناية بالدواب، وتجهيز صناديق المعدات الحربية ونقلها إلى خطوط القتال.

وكانت هناك وحدة أخرى تُعرف باسم “لَغْمَجَه” (Laghmacı Corps)، وتختص بحفر الأنفاق المعبّأة بالبارود وشقّ الممرات تحت أسوار المدن المحاصَرة. كما وُجدت فرقة خاصة بإمداد الجيش بالماء، كانت تنقل المياه للمجاهدين حتى وسط ساحات المعارك.

وفي عهد الفاتح ازدهرت المدارس العسكرية ازدهاراً كبيراً، فصار الأطباء والمهندسون والبيطرة والعلماء والمتخصصون يتخرجون تباعاً، ويسهمون في دعم الجيش فنياً وتقنياً. وقد ذاع صيت العثمانيين بفضل مهارتهم الصناعية وجودة تنظيمهم العسكري.

وكان الفاتح يعقد آمالاً واسعة على تطوير الجيشين البرّي والبحري، وقد ظهرت له أهمية الأسطول البحري بجلاء أثناء حصار القسطنطينية، حين شدّد العثمانيون الطوق على المدينة براً وبحراً، فتهيأت أسباب الفتح. وبعد سقوط القسطنطينية ازدادت أهمية القوة البحرية، ولم يلبث الأسطول العثماني أن بزغ نجمه في البحرين الأسود والمتوسط.

وتكشف مطالعة كتاب “حقائق الأخبار عن دول البحار” لإسماعيل سرهنك أنّ السلطان محمد الفاتح أولى الأسطول عناية خاصة، حتى عُدّ عند بعض المؤرخين المؤسس الحقيقي للبحرية العثمانية.

وقد استفاد الفاتح من خبرات الدول المتقدمة في صناعة السفن، مثل جمهوريات إيطاليا، ولا سيما البندقية وجينوة، اللتين كانتا قوتين بحريتين بارزتين في ذلك العصر. ولما أبصر في مدينة سيوب سفينة ضخمة لا نظير لها، أمر بالاستيلاء عليها واتخاذها نموذجاً لبناء سفن مماثلة أو أفضل منها.

وكانت هناك إدارة مخصّصة لصناعة السفن تُعد جزءاً من الجيش، تُعرف باسم “طائفة العَزَب”، وتضم نحو ثلاثة آلاف جندي بحري، بين قادة سفن وملاحين وبحّارة.

العدل والإنصاف

كان إرساء العدل بين الرعية من أهم الواجبات التي اعتنى بها السلاطين العثمانيون. وقد سار السلطان محمد الفاتح على نهج أسلافه، حريصاً على ترسيخ العدل في أرجاء الدولة جميعها. ومن أجل متابعة سيره، كان يعهد – بين حين وآخر – إلى رجال من علماء النصارى أن يجوبوا البلاد ويمحّصوا أحوال القضاء. وكانوا يُزوَّدون باستمارات خاصة تبيّن منهجية البحث، ويُمنحون حرية كاملة في التحقيق من غير أي قيود.

Exit mobile version