نظرة موجزة إلى حياة وأعمال الشهيد حكمة الله مزمل – تقبله الله _

الشهيد السعيد، حكمة الله مزمل، هو نجل الحاج خليل الرحمن، وحفيد المولوي غلام حضرت، وُلد في اليوم الثاني والعشرين من شهر ثور عام 1379هـ ش، في قرية “مدو” التابعة لوادي “خوات” المعروف برجالاته الشهداء، في مديرية بند چك من ولاية وردك.

كان عمره سبع سنوات فقط عندما بدأ يتلقى أولى دروسه الدينية والعقدية من إمام قريته، ثم التحق بعد ذلك بالمدرسة الدينية المحلية لمواصلة تعليمه الشرعي.

بعد فترة، انتقل إلى المدرسة الدينية في “آدم خيل”، ثم التحق لاحقًا بدار العلوم “شهادة” في منطقة “دشت تُوب”، حيث درس حتى الصف العاشر، وتلقى العلوم الدينية حتى المرحلة الخامسة. وبعد فتح البلاد، توجّه إلى العاصمة كابل وبدأ دراسة الحقوق في جامعة “مشعل”، إلا أن مشواره العلمي انقطع في الفصل الثالث، إذ ودّع هذه الدنيا الفانية، وبلغ أمنيته الكبرى، الشهادة في سبيل الله.

كان الشهيد مزمل – تقبله الله – من أولئك الشباب المؤمنين والمضحين الذين كان الإيمان يجري في عروقهم كما يجري الدم، وكان مجاهدًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فإذا نُودي للجبهة، كان أول الواقفين استعدادًا، لا ينتظر أمرًا إداريًا، بل يُلبّي نداء الإيمان، والغيرة، والدعوة، والتضحية.

حينما كان يدرّس في “دشت تُوب”، تغلّبت عليه مشاعر الجهاد، فصار يتسلل خفية إلى منطقة “شيخ آباد” ليلتحق بإخوانه المجاهدين، وليؤدي دينه في الجهاد ضد الغزاة. ثم هاجر إلى وادي “شنه‌ز” في مديرية سيد آباد، وهناك انضم إلى كتيبة الشهيد الحاج محب الله “وقاص”، ونزل فعليًا إلى ميدان الكمائن، وزرع الألغام، والهجمات المباغتة.

وكان إذا نودي المجاهدون إلى عملية ليلية، تبادل الإخوة النظر، وكلٌّ منهم يقول: “الدور لي”، والآخر يقول: “لم أذهب بعد”. أما مزمل، فكان دائمًا حاضرًا، ثابتًا. بل كان يأتي وقت يُقال له: “مزمل يا أخي، لقد ذهبت بالأمس، والليلة دورنا”، فيخفض بصره، وتذرف عيناه دموعًا، ثم يقول بصوت خافت: “لماذا لا يجعل الله هذه الخدمة من نصيبي مرة أخرى؟”

تلك كانت دموع عبدٍ متواضع، صادق، وفيٍّ، كان يقدّم نفسه مئة مرة فداءً لله، طلبًا لرضاه، لا يرى نفسه مميزًا عن إخوانه المجاهدين، بل يكرر القول: “أنا أخوكم، وخدمتكم فخري، وإن كان الدور لكم اليوم، فقلبي لا يحتمل، أود أن أذهب. إن كان هناك موت أو جراح، فليكن من نصيبي، وإن كان هناك نصر، فليكن لنا جميعًا”.

يَروي أحد رفاقه المجاهدين:

في أحد الأيام، كانت قوافل الإمداد التابعة للجيش العميل تأتي من جهة غزني وكابل، فتولينا، نحن مجموعة من المجاهدين المهاجرين، بقيادة الشهيد محمد جميل أسد – تقبله الله – تنفيذ كمين في المنطقة. وكان مع الشهيد محمد جميل أسد، الشهيد حكمة الله مزمل – تقبلهما الله – ومجاهد مهاجر ثالث، فاختاروا التمركز في الجهة الأخطر من الكمين، وهي منطقة كان خطر الحصار فيها قائمًا باستمرار، وكانت المدرعات (الدبابات) تنزل باتجاه المجاهدين على الدوام.

عندما بدأ الكمين، اندلعت معركة حامية وعنيفة، وأسقط عدد كبير من مركبات القافلة اللوجستية، فدفع العدو بقوات الكوماندوز نحو الشهيدين محمد جميل أسد وحكمة الله مزمل – تقبلهما الله – مستخدمين الدبابات. ونظرًا لضيق المنطقة التي لم تكن تسع سوى لمركبة واحدة، فقد كان الشهيد محمد جميل أسد متمركزًا هناك. فتولى الشهيد حكمة الله مزمل إشغال الجنود الجالسين في برج الدبابة بسلاحه الأوتوماتيكي، بينما أطلق الشهيد محمد جميل أسد – تقبله الله – قذيفة صاروخية على الدبابة، فأصابها إصابة مباشرة، وتوقفت كل الدبابات في مكانها، وتم منع تقدمها نهائيًا.

لكن أثناء إطلاق القذيفة، التهمت ألسنة النيران الناتجة عن الانفجار جسد الشهيد حكمة الله مزمل – تقبله الله – فأُصيب في وجهه، وصدره، وساقيه. إلا أنه، والحمد لله، تلقى العلاج بسرعة، وعاد إلى ميادين المعارك من جديد.

المعركة التاريخية مع وحدة الوحشية المعروفة بـ(01 صفريك):

جرت هذه المعركة في منطقة “ملي خېلو”، حيث أُنزلت بوحدة صفريك الوحشية عقوبة تاريخية ومؤلمة، وتم الاقتصاص للمظلومين، ووُضِعت نهاية لأبشع جرائم صفريك. شارك في هذه العملية المباركة عدد من القادة الميدانيين، وقد نال عدد كبير منهم ما كان يسعى إليه من شهادة، ومن أبرزهم الشهيد محمد جميل أسد، والشهيد عبيد الله مبارز – تقبلهما الله – وسنترك ذكر الأحياء.

وكان الشهيد حكمة الله مزمل – تقبله الله – من المشاركين في هذه المعركة إلى جانب الشهيد محمد جميل أسد. واستمرت المعركة حتى العصر تقريبًا، حيث أُبيدت فيها وحدة صفريك الوحشية بالكامل، وتم إرسالهم إلى قعر جهنم، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.

كان بحوزة الشهيد حكمة الله مزمل قاذفة صواريخ، ولما انهارت صفوف صفريك تحت ضربات المجاهدين القوية، لم يكن لديهم ما يفعلونه، فصعد المجاهدون نحو الطريق العام، وواصلوا القتال وجهاً لوجه، حتى دمروا مركباتهم وقضوا على من تبقى منهم.

وفي تلك الأثناء، وصلت دبابات الدعم السريع لإنقاذ صفريك، فعاد المجاهدون من القتال اليدوي إلى خطوط الكمين الأمامية. واشتدّت المعركة، فأُصيب الشهيد حكمة الله مزمل واثنان من المجاهدين نتيجة إصابتهم بقذيفة. وكان الشهيد حكمة الله مزمل – تقبله الله – في منتهى الذكاء والبراعة، فقد أخرج نفسه بنفسه من الخطوط الأمامية، وسلّم قاذفة الصواريخ إلى زميله، ولم يكن فيها سوى قذيفة واحدة، إذ استخدم كل ما فيها.

ثم وصل بنفسه إلى مكان الجرحى والمركبة، وفي طريق العودة، وعندما وصلوا إلى قرية “ميرخان خېلو”، استُهدفوا بضربة جوية من طائرة بدون طيار، لكن الضربة أخطأت هدفها ولم تصبهم، فنجا الجرحى والمركبة من الخطر.

ذكرى من شتاءٍ مثلّج:

في إحدى ليالي الشتاء، عندما بدأت البرودة تشتد، وكانت الثلوج البيضاء قد غطّت الجبال والغابات والسهول، كنّا نختبئ داخل أحد المنازل في منطقة “ملي خېلو” لنقضي فيه ليلتنا، على أن نعود في الصباح إلى مركزنا. وعند الساعة الخامسة صباحًا تقريبًا، سُمع صوت عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية يفيد بأن قوةً عسكريةً بدأت عمليات تفتيش في المناطق التي يسيطر عليها المجاهدون.

نهضنا من النوم وتحركنا نحو الجبال، وسرنا مسافة طويلة حتى وصلنا إلى سهل فسيح. كانت المدرعات تقترب تدريجيًا، وفي هذه الأثناء، توقّف بنا موتر (سيارة) الشهيد عبيد الله مبارز – تقبله الله – ونقلنا من تلك المنطقة إلى قرية “حسن خېلو”، ومنها واصلنا سيرنا وسط الثلوج البيضاء إلى قرية “آبدرې”، حيث قضينا يومنا هناك، وكان العشرات من المجاهدين الآخرين قد توافدوا إلى المنطقة حتى امتلأت بالمجاهدين. ورغم ذلك، فإن سماء المنطقة لم تكن تخلو من طائرات الاستطلاع والتحليق الاستخباراتي.

حلّ الليل، وكان احتمال شن غارة ليلية يقارب المئة بالمئة. فتوجّه شبان القرية والمجاهدون إلى أماكن اختباءهم، وكنتُ أنا والشهيد حكمة الله مزمل – تقبله الله – وعدد كبير من المجاهدين مختبئين في أحد المخابئ. وعند الساعة 11:30 مساءً، قررنا الخروج من المخبأ. وبما أننا كنا من أوائل من دخلوا، فقد اضطررنا لأن نكون آخر من يخرج. ومع ذلك، حاولنا أن نتقدم قليلًا نحو المخرج.

وحين وصلنا إلى مدخل المخبأ، كان عدد كبير من المجاهدين والمدنيين قد خرجوا. عندها صاح مزمل – تقبله الله –: “توقفوا! هناك صوت طائرات.” فتوقفنا، ثم قال ثانية: “ارجعوا! بدأ القصف والمعركة.” أصابتنا الدهشة، فالمجاهدون خرجوا للتو، ما الذي حدث؟! فرجعنا إلى عمق المخبأ ولم نكن قد وصلنا بعد إلى موقعنا السابق، حين دوّى انفجار هائل له أثر مدمر.

ضغط الهواء الناتج عن القنبلة ضرب رؤوسنا في سقف المخبأ، وامتلأ المكان بالغبار والدخان ورائحة البارود. غطينا وجوهنا وبدأنا ندعو الله تعالى أن يحفظ أولئك المجاهدين الذين خرجوا قبلنا بلحظات. وساد المكان صمت مخيف اختلط بالآهات والتنهيدات، ورائحة البارود كانت تملأ الأجواء.

وفي الصباح، وبينما كنا نحاول إقامة الصلاة، فتح أحد كبار السن من سكان القرية فتحة المخبأ وصاح: “هل بقي منكم أحد على قيد الحياة؟” فأجبنا بصوت واحد: “نعم، نحن أحياء.”

وحين خرجنا من المخبأ، علمنا أن طائرة أمريكية من نوع F-16 قد ألقت قنبلة ضخمة على ذلك المخبأ. وكان مدخله قد انسدَّ بشكل كبير، إلا أن يقظة الشهيد حكمة الله مزمل – تقبله الله – كانت سببًا في نجاتنا نحن وعدد كبير من المجاهدين.

التحاقه بجبهة ننكرهار:

في عام 1398هـ.ش، كانت المعارك الضارية قد بدأت في ولاية ننكرهار ضد الخوارج (تنظيم داعش)، وكان المئات من مجاهدي منطقتنا يُوفَدون ضمن تشكيلات عسكرية لقتالهم. وقد أُرسل الشهيد حكمة الله مزمل تقبله الله بأمر من قيادته إلى ولاية ننكرهار للمشاركة في سحق الخوارج، حيث بدأت هناك هجمات قوية وقاصمة من قبل مجاهدي الإمارة الإسلامية على معاقل داعش.

وما إن وصل حتى توجّه إلى خطوط القتال الأمامية، وتحديدًا إلى منطقة “وادي حصار/وُديسار”، حيث كان عدد من المجاهدين متمركزين، فصدر إليه أمر بالتطهير من قبل “قيام صاحب”. فتقدّم المجاهدون وأحرزوا النصر في منطقة وُديسار، حيث غنموا كمية كبيرة من العتاد العسكري، والألغام الضاغطة، والأسلحة والذخائر. قضوا ليلتهم الأولى هناك ثم عادوا إلى مراكزهم في اليوم التالي.

وبعد يومٍ من الراحة، بدأ الهجوم على أقوى معاقل داعش، والذي كانوا يطلقون عليه اسم “موضع البغدادي”. كانت رقعة سيطرة المجاهدين تتوسع يومًا بعد يوم، حتى أنشؤوا خنادق جديدة قرب هذا المعقل وبدؤوا بحراسة الخطوط الأمامية. وقد استمر القتال فيه قرابة ثلاثة أو أربعة أيام. وكان هذا الموضع يُعد أقوى حصن لدى تنظيم داعش في ننكرهار، وكان يُنظر إليه على أنه لا يُقهَر.

لكن وبعد أربعة أيام من القتال، سقط ذلك المعقل أيضًا، وبدأ المجاهدون بالتقدم نحو منطقة “وزيرو تنګي”، وكان مقاتلو داعش يفرّون أمامهم، والمجاهدون يلاحقونهم من الخلف، في سلسلة فتوحات عظيمة ومفرحة حتى وصلوا إلى منطقة “توره بوړه”.

هناك، استُشهد ثلاثة من مجاهدي منطقة الشهيد مزمل إثر ضربة نفّذتها طائرة أمريكية بدون طيار، وبعد 35 يومًا من العمليات ضمن التشكيل، عاد الشهيد مزمل إلى منطقته في ولاية وردك.

الزوجة الأرملة في بيت والدها:

في القرية، كانت الأعيرة النارية تُطلق فرحًا، والأطفال ينشدون أغاني السرور، إذ سرت بشرى سارة: تمت خطبة “مزمل جان”. اجتمع الأقرباء، واحتفل الشباب والمجاهدون ورفاق الجبهة بتلك اللحظات السعيدة لأيامٍ متواصلة. لكن مزمل، بعد أيامٍ قليلة فقط من الخطبة، عاد إلى الجبهة.

ذلك اليوم الذي كان ورقة أملٍ جديدة في حياة ملؤها الفرح، غرق اليوم في دموع الحزن. كانت العائلة منهمكة في تجهيزات الزواج، وكانت والدته تدعو له، وأخته تُطرّز في مخيلتها فستان العروس ممزوجًا بالدموع، وخطيبته كانت كل ليلة تُناجي السماء بآمالها في زوجٍ مخلص، تقيّ، وشجاع.

لكن مزمل، بعد يومٍ من البهجة، اتجه مجددًا نحو الجبهة؛ نحو تلك الجبهة التي يروي فيها رجال الأمة عطشهم، وهناك تتحوّل الأمنيات إلى عزمٍ وإيمان.

كان الجميع يرجوه:

“مزمل! تمهّل قليلًا، لم يتبقَّ على الزواج شيء، الملابس جاهزة، البيت سيكون مملوءًا بالفرح، وستبدأ فصلًا جديدًا من حياتك!”

لكنه كان يبتسم فقط، صوته كان خافتًا، لكنه كان واثقًا: “عندي وعد مع الله… هذه الحياة ليست للراحة، بل للبذل والتضحية.”

كانت خطيبته تنتظر كل يوم أملًا جديدًا، لكن ما كُتب في صفحات القدر كان مختلفًا. بدلاً من أغاني العرس، جاء نداء الشهادة. لم يُغلَ إبريق الشاي، لم يُفرش المائدة، لا أغانٍ، لا تهاني، بل فقط صرخات مؤلمة، وظل الحزن غطّى البيت، واستُبدلت فرحة الزواج بالكفن الأبيض.

ذلك الثوب الأحمر الذي خاطته العروس لليلة زفافها، صار الآن هامدًا صامتًا، حلمًا دفنته الأتربة. صور الخطوبة لم تَعُد ذكرى فرح، بل سببًا لانهمار الدموع.

شفتا الأم، التي كانت تدعو لابنها يوميًا، صارتا صامتتين، ولم يبقَ سوى البكاء، ووحدةٌ موجعة، وسؤال عميق: “يا بنيّ! لماذا لم تنتظر؟ لماذا تركت ليلة زفافك وحدها؟!”

الشهيد مزمل تقبله الله كان نجمًا ساطعًا في سماء الأخلاق الحسنة، والعزيمة العالية، والصبر، وسعة الصدر. كان دائم التطلع إلى الشهادة، وبعد الفتح، خدم ضمن كتيبة العمليات الخاصة التابعة للاستخبارات، وكان حريصًا دائمًا على ألا يضيع وقته سدى؛ إما يدرس، أو يعبد، أو يشارك في الرياضة مع إخوانه. كان مولعًا بلعبة الكرة الطائرة.

كلما جاءه خبر عملية، كان يُعِدّ نفسه لها بفرحٍ ولهفة، وكان في أثناء السفر يحدّث رفاقه عن الشهداء وتمنياته في نيل الشهادة. قضينا ثلاث ليالٍ في ولاية لغمان في أحد بيوت الضيافة بفرحٍ وسرور، وكان منذ بداية السفر إلى نهايته يتحدث عن الآخرة، عن الشهداء، وعن أمله بلقاء الله جل جلاله.

كان مزمل – تقبله الله – واقفًا على ربوة حين واجه العدو وجهًا لوجه، فأطلق العدو عليه الرصاص، فاستجاب لنداء الشهادة، وأسلم روحه الطاهرة إلى ربّه، نحسبه كذلك والله حسيبه.

Exit mobile version