الهجوم المفاجئ للجيوش العثمانية
اختار العثمانيون طريقة ذكية لدخول المدينة؛ فبنوا قلعة ضخمة ومتحركة من ألواح الخشب، كانت هذه القلعة المتنقلة مكونة من ثلاثة طوابق، وكانت أعلى من أسوار المدينة. غُطِّيت بلباسٍ مصنوع من قماشٍ مبلل ليمنع تأثرها بالنار، وجُهِّز كل طابق بالمقاتلين، وفي الأعلى جلس الرماة الذين استهدفوا كل من يطلّ برأسه من فوق الأسوار.
عندما تقدّم العثمانيون بهذه القلعة، سرت الرهبة في قلوب المدافعين عن المدينة. اقترب المسلمون بها حتى بلغوا سور “باب رومانوس”، فخرج الإمبراطور قسطنطين بنفسه مع قادته لمحاولة صد القلعة ودفعها بعيدًا عن الأسوار. اندلعت معركة بين الجنود بداخل القلعة والمدافعين عن المدينة، واشتدت حدتها، وتمكن بعض المسلمين المحاصرين من كسر القيود وتحرير أنفسهم عبر الأسوار.
أيقن قسطنطين حينها أن الهزيمة قادمة، خاصة مع تكرار الهجمات العثمانية على القلعة. وقد تعرضت القلعة المتحركة للنيران فاشتعلت، وانهارت قرب أحد أبراج البيزنطيين، واستُشهد الجنود الذين كانوا بداخلها. وبعد ذلك، تم ردم الخندق الذي خلفته بالتراب والحجارة، لكن العثمانيين لم ييأسوا، واستمروا في جهودهم. وعندما رأى محمد الفاتح ما حدث بعينيه، قال: “سنصنع غدًا أربع قلاع متحركة أخرى مثل هذه”.
طال الحصار واشتد، حتى بدأ البيزنطيون يفقدون صبرهم. وفي 24 من مايو، اجتمع كبار قادة المدينة في القصر الإمبراطوري، وكان قسطنطين حاضرًا. في ذلك الاجتماع، عبّر الحاضرون عن رؤيتهم لغيوم اليأس في السماء، فاقترح البعض على الإمبراطور مغادرة المدينة قبل أن تسقط، لكنه رفض، وأعلن عزمه البقاء مع رعيته حتى الموت. خرج الإمبراطور بعدها يتفقد الأسوار والحصون.
انتشرت الإشاعات في المدينة، وبدأت معنويات الجنود تنخفض تدريجيًا. ومن أبرز تلك الأحداث، ما وقع في 16 جمادى الأولى (25 مايو)، حيث خرجوا بتمثال السيدة مريم رضي الله عنها، يتضرعون ويطلبون النجدة أمام المسلمين، لكن فجأة سقط التمثال من أيديهم وتحطم. لم تكن هذه الحادثة عابرة لدى النصارى، بل رأوا فيها فألًا شؤمًا ودليلًا على خطر قادم، خاصة بين صفوف المدافعين الذين ازداد قلقهم.
وفي اليوم التالي، 26 مايو، حدثت واقعة أخرى: سقط مطر غزير، وتبعته صاعقة نزلت من السماء وسقطت مباشرة على سطح “آيا صوفيا”. اعتبر كبير القساوسة هذا الحدث نذير شؤم للمدينة، وذهب للإمبراطور قائلًا: “إن الله تعالى قد رفع نصرته عنك، وهذه المدينة ستسقط قريبًا بيد الجيش العثماني”، فاشتد قلق الإمبراطور وسقط مغشيًا عليه.
في هذه الأثناء، استمر المدفع العثماني في دك الأسوار والحصون بلا توقف، مما تسبب في تصدعات كبيرة فيها. وبدأ الجنود العثمانيون يتجاوزون الخنادق حول المدينة، وكان من الممكن أن يدخلوها، لكن لم يكن معروفًا من أي جهة سيكون الهجوم.
كان محمد الفاتح واثقًا من النصر، لكنه لم يكن يرغب في سفك الدماء، فكتب إلى الإمبراطور قسطنطين رسالة يدعوه فيها إلى تسليم المدينة دون قتال، مؤكدًا له السلامة له ولأتباعه، وأنهم سيكونون أحرارًا في البقاء أو المغادرة، ولن يُسفك دم في المدينة، ولن يُؤذى أحد.
عندما وصلت الرسالة إلى قسطنطين، دعا إلى اجتماع للمجلس، وطرح عليهم خيار الاستسلام. بعضهم وافق على تسليم المدينة، وآخرون أصروا على القتال حتى الموت. اختار الإمبراطور القتال، وردّ على محمد الفاتح قائلًا:
“أحمد الله أن السلطان يطلب السلام، وأنا أوافق على دفع الجزية بسعادة، لكن فيما يخص القسطنطينية، فأقسم أنني سأدافع عنها حتى الموت، إما أن أنتصر وأحمي عاصمتي، أو أدفن تحت أنقاضها”.
وعندما تلقى السلطان محمد الفاتح هذا الجواب، قال:
“قريبًا سيكون عرش القسطنطينية ملكًا لي، أو سيكون هذا المدينة قبري”.