بعث الله تعالى رسوله في قوم غافلين ومجتمع مظلم، ولقد بذل جهوداً كبيرة في تعليم وتربية هذا الشعب، ودعاهم إلى الأخلاق الحميدة، وأبلغهم رسالة الإسلام بمنتهى اللطف واللين، وسنته صارت مصدرا لمبادئ الدعوة للأجيال القادمة.
لكن بدلاً من أن يستجيب هؤلاء للدعوة، أنكروا رسالته، وسخروا منه، واستهزأوا به، بل وتآمروا على اغتياله.
وكانت مكة يومئذ كالتنور المتقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن يهدأ لا في نوم ولا في يقظة، ولقد حاول المشركون في مكة الحيلولة دون انتشار نور الدعوة، ولكن بفضل الله تعالى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً من بين هذا القوم الغافلين، وفشلت مخططات المشركين الخبيثة، وهاجر إلى المدينة المنورة، حيث كانت بيئة آمنة ومناسبة للدعوة، وبعد وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ساد المدينة جو من الأمن والأخوة، وتحول العداء الشديد بين الأوس والخزرج إلى أخوة.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسّ في ذلك الوقت بخطرين عظيمين:
1-: قريش؛
كان من الممكن أن تتحرك قريش ضده وهم يرون المستقبل المشرق للمدينة المنورة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في المدينة دولة قوية لها علاقات سياسية واقتصادية مع كل جيرانها، وقد أرسلت قريش رسائل التهديد المتكررة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، تحذره فيها من أن الهجرة إلى المدينة لن تنقذك من بين أيدينا، فأحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخطر، ولذلك كان يقضي الليالي حزنا على أصحابه.
2-: اليهود؛
شعب بلغ الذروة في المكر والخداع، والمتوقع من اليهود هو ما كانوا يفعلونه في بعض الأحيان، لقد كانت اليهود كالغدة السرطانية التي كانت تسمم كل مجتمع، وكانوا يتصرفون بدافع الكراهية والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحفرون الحفر في طريقه في الخفا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قد بعث بعد للقتال والجهاد، وكان الله تعالى يأمره بالصبر، ورغم المشقة والاضطهاد، ظل هو وأصحابه صابرين ومتمسكين بأوامر الله، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر الإذن بالقتال لقطع يد الظالم وحماية النظام الإسلامي من مؤامرات الكفار الظاهرة والخفية.
وأخيراً انتهى هذا الانتظار في السنة الثانية من الهجرة، حيث أذن الله تعالى لرسول الله وأصحابه بالقتال، ونزلت هذه الآية: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” (سورة الحج، آیه ۳۹)
ومن هنا بدأت حركة الفتوحات، وفي هذا المجال نظمت فتوحات حملت رأية عظمة الإسلام إلى كل أرجاء العالم.
يقسم مؤلفو السيرة النبوية المعارك إلى قسمين: فمنهم من يذكر أولاً المعارك التي دار فيها صراع بين المسلمين والكفار، وأولها غزوة بدر، ويرى آخرون أن هذه الغزوات ذات طبيعة مطلقة، رغم عدم وقوع أي صراع فيها، وأولها معركة أبوا.
وسنحاول أن نركز على الغزوات التي دارت فيها الحرب، وأن نحلل أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب، واستراتيجياته، والدروس والعبر المستفادة منها، وأخطاء الأعداء الناشئة من جهلهم وقصور فكرهم.