تُظهر مسيرة التحوّلات التاريخية أن الإنسان، منذ نشأته، ظل دائمًا في صراع بين الفطرة الإلهية والهوى النفسي. هذا التضاد الفطري الذي أشار إليه القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7-8]، يوضح أن حياة المجتمعات البشرية عبر التاريخ تسير دائمًا بين الهداية والضلال.
وفي هذه الطريق الوعرة، بعث الله أنبياءه الكرام لهداية البشر وتربيتهم، لينقلوهم بتعاليم الوحي من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة. وقد كانت بعثة خاتم الأنبياء سيدنا محمد ﷺ مرحلة حاسمة ومفصلية في هذه المسيرة، حيث قدّم الهداية الكاملة والشاملة للبشرية في صورة الإسلام المحمدي الخالص. ومع ذلك، وبسبب الضعف الفطري للإنسان وغلبة الأهواء، لم تَسْلَم الأمة الإسلامية من خطر الانحراف.
فبعد وفاة رسول الله ﷺ، وإن كان الخلفاء الراشدون قد سعوا جاهدين لمواصلة السير على منهاج النبوة، إلا أن الخلافات السياسية العميقة والانقسامات العقائدية سرعان ما ظهرت. وفي هذا السياق، كان الخوارج أول تيار متطرف في التاريخ الإسلامي، إذ رفعوا شعارات إصلاحية ظاهرية لكنهم في باطنهم ساروا في مسار منحرف، مستخدمين شعارات مثل «لا حكم إلا لله»، فقدموا تفسيرات سطحية وبعيدة عن الأساس المتين للمفاهيم الدينية، وأرسوا بذلك أسس الفكر التكفيري، وهو المسار المنحرف الذي استمر عبر القرون حتى هيّأ الأرضية الفكرية لظهور الجماعات التكفيرية المعاصرة كـ«داعش».
إن الجماعة المنحرفة التي اشتهرت باسم «داعش» والتي أعلنت عن «خلافتها» عام 2014م، لم تكن في الحقيقة إلا ثمرة متأخرة لهذا الانحراف التاريخي والفكري الطويل. فقد رفعت هذه الجماعة دعوى إعادة إحياء منهج السلف الصالح، لكنها قدمت تفسيرًا محرّفًا ومنحرفًا بالكامل للمفاهيم الإسلامية، وارتكبت جرائم ممنهجة لا تمت بصلة إلى الإسلام المحمدي النقي.
والنقطة الأهم أن «داعش» لم تكن ظاهرة نبتت عشوائيًا أو وُلدت طبيعيًا، بل كانت جزءًا من مشروع كبير خطّطت له ودعمته قوى الكفر العالمية؛ حيث كانت هذه الجماعة أداة بيد اللاعبين الغربيين لتحقيق أهداف كبرى مثل: إنهاء مشروعية الفكر السياسي الإسلامي، التمهيد للحضور العسكري في الشرق الأوسط، وبثّ الفرقة بين المسلمين. وما الدعم المالي والعسكري الذي حظيت به «داعش» من بعض الدول الإقليمية، إلى جانب الحملات الإعلامية الموجّهة التي ضخّمت من حجمها، إلا شواهد واضحة على هذه الحقيقة.
لقد تسببت أنشطة «داعش» في أضرار عميقة وواسعة النطاق على الساحة الدولية، وكان من أبرز نتائجها انتشار موجات العداء للإسلام في الغرب، وهذه لم تكن سوى واحدة من ثمار هذا الانحراف المشؤوم. واليوم، رغم أن «داعش» قد ضعفت عسكريًا، إلا أن دراسة هذه الظاهرة بعمق وبُعد علمي تظل ضرورية من جوانب متعددة:
أولًا: تُسهم في كشف حقيقة الجماعات المنحرفة المعاصرة.
ثانيًا: تُعدّ تحذيرًا من العواقب الوخيمة التي تنجم عن التفسير الخاطئ والمنحرف للدين.
ثالثًا: توضح كيف تستخدم القوى العالمية الكبرى هذه الجماعات كأداة لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية.
وفي الختام، ينبغي التأكيد على أن مكافحة مثل هذه الظواهر الخطيرة بفعالية تتطلب من الأمة الإسلامية ـ وخاصة الأجيال الشابة ـ أن تعي وتتحلّى بالبصيرة، لتتعرف على الوجه الحقيقي لهذه الجماعات المنحرفة، وتحصّن نفسها بأسس الإسلام الصحيحة.