التقييم الشرعي لدعاية وانتقادات خوارج داعش ضد الإمارة الإسلامية! الجزء الرابع والعشرون

المولوي أحمد علي

بعض أحوال التعاون مع الكفار ضد المسلمين:

إن عقدت القيادة الإسلامية من أجل الإسلام والمصالح الاجتماعية ورفاهية المسلمين اتفاقيات مع الكفار على التعاون ضد بعض جماعات المسلمين فإن بعض هذه الصور جائزة؛ مثلاً سلم النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير رضي الله عنهما إلى الكفار بمعاهدة؛ لأن هذه المعاهدة عقدت مع قريش وصرحت بأن من أسلم حديثاً من قريش وقدم إلى المدينة فإنه يرد إلى قريش، أو كما حدث قبل سنوات قليلة عندما وقعت القيادة المباركة لإمارة أفغانستان الإسلامية (نصرها الله وأعزها) اتفاقية تاريخية وفخورة مع الأمريكان في دولة قطر وفي مدينة الدوحة، والتي بموجبها ألزمت قوات الاحتلال الإميركية وحلفائها بالانسحاب التدريجي من أفغانستان خلال أربعة عشر شهراً، وبأن لا يتدخلوا في الشؤون الداخلية لأفغانستان في المستقبل، وفي المقابل تعهدت الإمارة الإسلامية (أعزها الله ونصرها) بعدم السماح باستخدام أراضيها ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

فهذا أيضاً نوع من الإعانة على أولئك المسلمين الذين كانوا يستخدمون أراضي أفغانستان ضد أمريكا وحلفائها، ولكن هذه الإعانة جائزة بناء على تلك المعاهدة ولما فيها من مصالح اجتماعية للإسلام والمسلمين، كما يقول العلامة ابن القيم الجوزي رحمه الله في المجلد الثالث من كتاب زاد المعاد ص 267: “ومنها: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما”.

ثم يقول بعد بضعة أسطر في نفس الصفحة:

“ومنها: جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ فى غيره بغير موجب”.

وقد ذكر العلامة ابن عاشور المالكي رحمه الله ثمانية أحوال من موالاة الكفار وأحكامها تحت الآية 27 من سورة آل عمران في كتابه التحرير والتنوير، وإليكم ملخص ما ذكرها:

والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقًا، والموالاة تكون بالظّاهر والباطن وبالظّاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال:

الحالة الأولى: أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر أو طائفته أولياء له في باطن أمره ميلًا إلى كفرهم ونواءً لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفرٌ، وهي حال المنافقين، وفي حديث عتبان بن مالكٍ: “أنّ قائلًا قال في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين مالك بن الدّخشن»، فقال آخر: «ذلك منافقٌ لا يحبّ اللّه ورسوله». فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقل ذلك أما سمعته يقول لا إله إلّا اللّه يبتغي بذلك وجه الله» فقال القائل: «اللّه ورسوله أعلم، فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين». فجعل هذا الرّجل الانحياز إلى المنافقين علامةً على النّفاق لولا شهادة الرّسول لمالك بالإيمان، أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلّا اللّه.

الحالة الثّانية: الرّكون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبّة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وإذا هم كما كان معظم أحوال الكفّار عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودّة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلّا أنّ ارتكابها إثمٌ عظيمٌ، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرّة الإسلام على أنّه من الواجب إظهار الحميّة للإسلام والغيرة عليه، كما قال العتّابيّ: تود عدوي ثم تزعم أنّني . . . . . صديقك إنّ الرأي عنك لعازب.

وفي مثلها نزل قوله تعالى: ﴿يٰۤايّها الّذين اٰمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا وّلعبًا من الّذين أوتوا الكتٰب من قبلكم والكفّار اوليآء﴾ [المائدة: 9]. قال ابن عطيّة: كانت كفّار قريش من المستهزئين، وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى: ﴿إنّما ينهٰىكم اللّٰه عن الذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم من دياركم﴾ [الممتحنة: 9] الآية، وقوله تعالى: ﴿يٰۤايّها الّذين آٰمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالًا﴾ [آل عمران: 118] الآية، نزلت في قومٍ كان، بينهم وبين اليهود، جوارو حلف في الجاهليّة، فداوموا عليه في الإسلام، فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحقيق، وكانا يؤذيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

الحالة الثّالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى: ﴿ولتجدنّ أقربهم مّودّةً لّلّذين اٰمنوا الّذين قالوۤا إنا نصارى﴾ [المائدة: 82] وكذلك كان حال الحبشة، فإنّهم حموا المؤمنين وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطةٌ، وهي لا توجب الكفر، إلّا أنه منهيّ عنه، إذ قد يجر إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين.

الحالة الرّابعة: موالاة طائفةٍ من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك في الجاسوس يتجسّس للكفّار على المسلمين: إنّه يوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصّواب؛ لأنّ التجسس يختلف المقصد منه؛ إذ قد يفعله المسلم غرورا، ويفعله طمعا، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأبا وعادة، وقال ابن القاسم: ذلك زندقة لا توبة فيه، أي لا يستتاب ويقتل كالزّنديق، وهو الّذي يظهر الإسلام ويسر الكفّار، إذا اطّلع عليه، وقال ابن وهب: ردّة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النّظر.

وقد استعان المعتمد ابن عبّاد صاحب إشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللّمتونيّين، فيقال: إنّ فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين عليا بن يوسف بن تاشفين بكفر ابن عبّاد، فكانت سبب اعتقاله، ولم يقتله ولم ينقل أنّه استتابه.

الحالة الخامسة: أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفّار محبّة المسلمين وعرضهم النّصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها: ففي المدوّنة: قال ابن القاسم: لا يستعان بالمشركين في القتال؛ لقوله عليه السّلام لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك» وروى أبو الفرج، وعبد الملك بن حبيب: أنّ مالكًا قال: لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبد البرّ: وحديث «لن أستعين بمشرك» مختلف في سنده، وقال جماعة: هو منسوخ.

قال عياضٌ: حمله بعض علمائنا على أنّه كان في وقت خاصّ، واحتجّ هؤلاء بغزو صفوان بن أميّة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حنينٍ وفي غزوة الطّائف، وهو يومئذٍ غير مسلمٍ، واحتجّوا أيضًا بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا بلغه أنّ أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النّضير من اليهود: «إنّا وأنتم أهل كتابٍ، وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النّصر، فإمّا قاتلتم معنا، وإلّا أعرتمونا السّلاح».

وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشّافعيّ، واللّيث، والأوزاعيّ، ومن أصحابنا من قال: لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم؛ لأنّ الإذن كالطّلب، ولكن إذا خرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التّوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطّحاوي عن أبي حنيفة: أنّه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين. قال ابن رشد: وهذا لا وجه له. وعن أصبغ المنع مطلقا بلا تأويل.

الحالة السّادسة: أن يتّخذ واحد من المسلمين واحدا من الكافرين بعينه وليّا له في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين: ﴿وان جهدك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفا﴾. [لقمان: 15] واستأذنت أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم في برّ والدتها وصلتها، وهي كافرة، فقال لها: «صلي أمّك».

وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: ﴿لا ينهاكم اللّٰه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم﴾ [الممتحنة: 8] قيل: نزلت في والدة أسماء، وقيل في طوائف من مشركي مكة: وهم كنانة وخزاعة ومزينة وبنو الحرث ابن كعب، كانوا يودّون انتصار المسلمين على أهل مكة، وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له.

وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرتاح للأخنس بن شريقٍ الثّقفيّ، لما يبديه من محبّة النّبي، والتّردّد عليه، وقد نفعهم يوم الطّائف إذ صرف بني زهرة -وكانوا ثلاثمائة فارس- عن قتال المسلمين، وخنس بهم، كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿ومن النّاس من يّعجبك قولهٗ فى الحيٰوة الدّنيا﴾ الآية.

الحالة السّابعة: حالة المعاملات الدّنيويّة، كالتّجارات والعهود والمصالحات، أحكامها مختلفةٌ باختلاف الأحوال، وتفاصيلها في الفقه.

الحالة الثّامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضرّ، وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى: ﴿إلّاۤ أن تتّقوا منهم تقىةً﴾.

ويقول ابن عاشور في تفسير الآية 56 من سورة المائدة: ﴿يٰايّها الّذين اٰمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتٰب من قبلكم والكفّار أوليآء واتّقوا اللّٰه إن كنتم مّؤمنين﴾: إذا أريد بالموالاة المنهيّ عنها الموالاة التّامّة بمعنى الموافقة في الدّين فالأمر بالتّقوى، أي الحذر من الوقوع فيما نهوا عنه معلّقٌ بكونهم مؤمنين بوجهٍ ظاهرٍ. والحاصل: أنّ الآية مفسّرةٌ أو مؤوّلةٌ على حسب ما تقدّم في سالفتها ﴿ومن يّتولّهم منكم فإنه منهم﴾ [المائدة: 51].

يتواصل…

Exit mobile version