من صفحات التاريخ؛ الخلافة العثمانية! الجزء الرابع والخمسون

حارث عبيدة

السلطان محمد الفاتح مع طلابه

كان السلطان محمد الفاتح يشجع طلابه على الجدِّ والاجتهاد، ويمنح الجوائز والمكافآت لكلِّ أستاذٍ أو طالبٍ يظهر نشاطًا وأداءً مميزين. كانت خدماتُ التعليم في أنحاء البلاد مجانية تمامًا، ولم تُؤخذ من الطلاب أيةُ رسوم.

كان المنهجُ المعتمد في تلك المدارس يتضمّن علوم التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة والمعاني والبيان والبديع والهندسة وغيرها، وكانت لهذه العلوم مكانةٌ خاصّة.

وفي القسطنطنيّة، كانت بجوار مسجد السلطان ثماني مدارس يُتمّ فيها الطلاب مراحل التعليم العليا. وكانت تلك المدارس تحتوي على غرف لإقامة الطلبة، وأقسامًا خاصة للطعام والنوم؛ كما كان يُمنحُ كلُّ طالبٍ مكافأةً شهرية.

وكنت للمدارس مكتباتٌ مستقلة، يُعيَّن فيها رجالٌ من أهل العلم والتقوى، ملمّون بالكتب ومؤلّفيها. وكان أمينُ المكتبة يُعير الكتب للأساتذة والطلاب، ويسجّل أسماء المستعيرين، ويلزمهم إعادةَ الكتب في الوقت المحدّد من دون أن يلحقَ بها ضررٌ، حتى تبقى أغلفتها وصفحاتها سليمة. وكانت المكتبات تُفتّشُ دوريًا بعد كل ثلاثة أشهر.

وقد قدّمت هذه المدارس التعليمَ الابتدائي والمتوسّط والعالي، وشملت العلوم النقلية والعقلية، بالإضافة إلى أقسامٍ للعلوم التطبيقية والتقنية. وبلغ مستوىُ التعليم في أنحاء البلاد درجةً عاليةً من التقدير، فكانتَ مدارسُ علماء إيران والمؤسّساتُ التعليمية والمساجدُ ذاتُ الموازنات تتنافسُ على التميّز.

مكانة العلماء

كان السلطان محمد الفاتح يُجلّ العلماءَ والأدباءَ، ويرى أنهم فخرُ الإنسانية. كان يقرّبُهم إليه، ويكرّمهم، ويشجّعهم على البحثِ والتأليف، كما رفع رواتبهم وحرص على استقرار وظائفهم ليواصلوا نشرَ العلم بثقةٍ واطمئنان.

عندما ضمّ السلطانُ قِرمانَ إلى إمبراطوريته، أمرَ بنقل العمال والحرفيين منها. تعاملَ الوزيرُ محمد باشا بخشونةٍ مع الناس، وكان بينهم علماءٌ، من بينهم أحمد جلبي بن الأمير علي. فلما علم السلطانُ بتعرّضِ الوزير للعالم، استدعى أحمدَ جلبي واعتذر له، وأكرمه وأعاده مكرّمًا.

أما زعيمُ التركمان أوزون حسن فقد تمرّد مرّاتٍ ونقض عهوده؛ فلما هُزم وأُحضر مع أتباعه أسيرًا إلى السلطان، أمر السلطان بقتل الأسرى جميعًا عدا العلماء منهم. وكان من بين العلماء القاضيُ محمد شريح، وهو من كبار علماء عصره؛ فأكرمه السلطانُ وأعفاه.

كان محمد الفاتح يقدّر العلماءَ المتّقين المتواضعين تقديرًا عظيمًا. وإذا غضب لسببٍ بسيطٍ يعود سريعًا إلى رضاه، محافظًا بذلك على احترام العلماء ومكانتهم.

تروي المصادرُ أن السلطان محمد الفاتح أرسل يومًا أمرًا سلطانيًا مع أحد خدمه إلى العلّامة الكوراني، وكان الكوراني في ذلك الحين قاضي الجيش. فلما قرأ الكوراني نصَّ الأمر ووجد فيه ما يخالف الشريعة، غضبَ ومزَّقَ المرسومَ وضرب الخادم.

ولما بلَغ الخبرَ السلطانَ، غضبَ هو أيضًا وعزلَ الكوراني من منصبه، فحصل بينهما جفاءٌ فهاجر الكوراني إلى مصر، حيث استقبله السلطانُ قايتباي وأكرمه إكرامًا كبيرًا.

بعد مدّةٍ أدرك السلطان محمد الفاتح خطأه، فكتب إلى قايتباي يطلبُ إعادةَ الكوراني. فلما أخبر قايتباي الكوراني بذلك، قال له: «ابقَ عندي، وسأكرمك أكثر مما كان يكرمكُ عنده.» فقال الكوراني: «صحيحٌ، لكن بيني وبين محمد الفاتح صلةُ مودةٍ عميقةٌ كصلةِ الأبِ بالابنِ، وإن لم أعدْ إليه ظنَّ أنَّك منعْتَني، فيزدادُ الجفاءُ بيننا.» أعجبَ قايتباي بهذا القول فأكرمه بالمال والعطايا، وأرسل معَه هديةً إلى السلطان محمد الفاتح، ثم ودّعه باحترام.

وعندما عاد العلّامةُ الكوراني إلى السلطان محمد الفاتح، استقبله هذا الأخير بحفاوةٍ، وأعاده إلى القضاء، وأكرمه أكثرَ ممّا كان

Exit mobile version