بوجه عام، تُعَدّ السياسة فن الحياة، وفن حماية القيم والمصالح من الآخرين. ومن خلال فهمها، يستطيع أي نظام أن يظل حيًا وفاعلًا بين مئات الأنظمة والقوى في العالم، وأن يمتلك استقلالية في اتخاذ القرار وتنفيذ الخطط. ومن أجل متابعة هذا النهج، تُطرَح كذلك مسألة السياسة الخارجية بوصفها قضية في غاية الأهمية. فالسياسة الخارجية تُعد من أبرز أبعاد الحياة الاجتماعية والسياسية للأمم والدول، إذ يرتبط بقاء هذه الدول واستمرارها ارتباطًا وثيقًا بسياستها الخارجية، ولهذا تُعد السياسة الخارجية من أهم موضوعات العلاقات الدبلوماسية والسياسات العالمية المعاصرة.
ودين الإسلام المبارك، بوصفه نظامًا إلهيًا وأبديًا، يمتلك سياسة خارجية رفيعة، وقد وُضعت أسسها في سيرة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال أقواله وأفعاله وتعامله مع الدول آنذاك. أما القرآن الكريم، فقد أشار في القضايا السياسية إلى المستوى الكلي، ومن تلك الإشارات تُستخلص مبادئ السياسة الخارجية الإسلامية، وهي تقوم على عدة فروض، لا تكتمل السياسة الخارجية الإسلامية دونها، ومن أبرز محاورها ما يلي:
1. الترابط بين الدين والسياسة
من منظور القرآن الكريم، يتطلب وضع مبادئ السياسة الخارجية الإسلامية أن يكون الدين والسياسة مترابطين، ولا مجال للفصل بينهما. فالإسلام في ذاته نظام سياسي متكامل، ولا يشبه المسيحية أو غيرها من المذاهب التي تفصل بين الدين والسياسة.
2. شمولية السياسة الإسلامية عبر العصور
السياسة الإسلامية، وخصوصًا السياسة الخارجية، لا تقتصر على زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو الصحابة الكرام أو الخلفاء الراشدين، بل هي بمنظورها الشامل تمتلك حلولًا ومبادئ للتعامل في كل زمان. فالإسلام دين معاصر لكل العصور، وله رؤية واضحة تجاه مختلف السياسات العالمية.
مبادئ السياسة الخارجية الإسلامية هي توجيهات تندرج ضمن السياسة العامة للدولة الإسلامية، وتحدد سياسة العلاقات الخارجية استنادًا إلى المصادر الدينية. ومن أهم هذه المبادئ: الدعوة أو الجهاد، إزالة الظلم، نفي السبيل، الحفاظ على العزة الإسلامية، الالتزام السياسي، والوفاء بالعهود. وهناك من السياسيين المسلمين من اعتبر “الولاء والبراء”، و”تأليف القلوب”، و”الأمر بالمعروف” من مبادئ السياسة الخارجية الإسلامية كذلك.
تأليف القلوب، أو كسب ود الآخرين، يتجلى اليوم في استخدام الوسائل الاقتصادية والمساعدات الإنسانية، حيث ينبغي للدول الإسلامية أن تستخدم هذا المبدأ لكسب المجتمعات غير الإسلامية وتخفيف العداء تجاه المسلمين. ومن أمثلته أن النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة الطائف، خصّ بعض الزعماء حديثي العهد بالإسلام، أو حتى بعض المشركين الذين تعاونوا معه، بنصيب من “مؤلفة قلوبهم” بغية جذبهم للإسلام.
الدعوة والجهاد، كذلك، من المبادئ الجوهرية في السياسة الخارجية الإسلامية، بل لعلها من أكثرها تداولًا ونقاشًا، لأن جوهر العلاقات الخارجية من منظور الإسلام يتجلى فيهما. وقد جمع العلماء بينهما لأن الاكتفاء بالدعوة دون الجهاد يُقصي جانبًا هامًا من السياسة الخارجية، وكذلك التركيز على الجهاد وحده يُضعف عنصر الدعوة. فهما معًا وجهان لصورة واحدة قوية تدعم أحدهما الآخر.
وقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن يبدأ الجهاد، رسائل سلمية إلى عدد من ملوك وأباطرة ذلك الزمان، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وأوفد إليهم سفراء سياسيين. ثم جاء الجهاد بعد ذلك، مما يدل على أن هذه كانت من أرقى صور السياسة الخارجية. وفي رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال: “يا علي! لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك مما طلعت عليه الشمس.”
من المحاور المهمة أيضًا في السياسة الخارجية الإسلامية: الالتزام بالعهود والاتفاقيات مع الدول غير الإسلامية. فقد أمر القرآن الكريم بالوفاء بالعهد، ولكن بشرط ألا تؤدي تلك الاتفاقيات إلى إضعاف سيادة المسلمين سياسيًا أو عسكريًا أو ثقافيًا. فإذا أصبحت الاتفاقية وسيلة للمساس بسيادة المسلمين، فإنها تصبح غير شرعية.
وعلى هذا الأساس، يجب أن تُنظّم العلاقات الخارجية في الإسلام بطريقة لا تؤدي إلى هيمنة الكفار على المسلمين. وإذا أفضت هذه العلاقات إلى إضعاف المسلمين وسقوط سيادتهم، فإنها تعتبر غير مشروعة. ومبدأ نفي السبيل يؤكد على ألا تكون للكفار سلطة على المجتمعات الإسلامية في أي مجال من المجالات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية.
في الختام، يمكن القول إن مبدأ العزة الإسلامية في العلاقات الخارجية هو ضمان لكمال النظام الإسلامي وشموله وقبوله، فهو دين سماوي كامل، وقد أكد تفوقه على الأديان الأخرى بقوله تعالى: “إن الدين عند الله الإسلام” و “ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه.” ولذلك، يجب ألا يتبنى النظام الإسلامي في علاقاته الخارجية سياسة تُضعف هذا الأصل أو تُظهره بمظهر متراجع.
لقد حاولت العديد من الدول الكافرة ومنظوماتها القانونية أن تخرج الجهاد من إطار السياسة الخارجية الإسلامية، وأن تطلق عليه أسماء أخرى، لكن الحقيقة هي أن الجهاد ركن أساسي من أركان تقوية السياسة الإسلامية وضمان استقرار توجهها الخارجي.