تتميّز الجغرافيا الجبلية لأفغانستان بخصوصية فريدة في القالب المتقن والمنقوش للعالم، ميّزتها عن غيرها ومنحتها شرفًا خاصًا. لقد حاول أعداء الإسلام مرارًا أن يُخضعوا هذا الشعب ويكسروه ويفرضوا عليه أهدافهم، لكنهم لم ينجحوا في ذلك قط، بل حملوا مخططاتهم الخبيثة على أكتافهم المكسورة ورحلوا.
قبل ستةٍ وأربعين عامًا، انهال شبح الشيوعية على هذه الجغرافيا، ولم يقتصر الأمر على الاحتلال العسكري فحسب، بل سعى كذلك إلى نشر الفكر الشيوعي ومحاولة احتلال العقول الأفغانية. غير أنّ هذه المحاولة باءت بفشلٍ ذريع، حتى بات هذا الغزو وصمة سوداء على جبين ذلك الشر، وعارًا خالدًا في سجل تاريخه.
لم يدرك الغزاة صلابة عقائد هذا الشعب، ولم يقيسوا عمق رسوخ إيمانه. وكما انهزم الغزو السوفيتي عسكريًا بنصرٍ من الله تعالى، فقد قام العلماء بواجبهم في مواجهة الغزو الفكري أيضًا، ومنعوا هذه الفتنة من أن تتفشّى.
بل إنّ هذا الشعب كان قد تهيّأ للمقاومة ضد الدولة الشيوعية قبل الاحتلال السوفيتي نفسه، وذلك بتوجيهٍ من العلماء. ففي الرابع والعشرين من شهر حوت عام 1357هـ.ش، انتفض أهالي هرات، ومعهم الضباط والجنود المسلمون من الفرقة السابعة عشرة في الولاية نفسها، في انتفاضة وطنية ضد الشيوعيين ومستشاريهم الروس. وقد اندلعت هذه الانتفاضة بحماسٍ عارم وغضبٍ متفجّر، فتمكّنت خلال وقتٍ قصير من السيطرة على معظم أحياء مدينة هرات، وكادت الولاية أن تسقط بأيدي الثائرين.
استمرّت هذه الانتفاضة ثلاثة أيام، قُتل خلالها عددٌ كبير من المستشارين الروس وجنود وقادة النظام الشيوعي التابعين لهم. غير أنّ الحكّام الشيوعيين آنذاك، ومعهم أسيادهم الروس، وجّهوا بعد ثلاثة أيام فوهات بنادقهم ومدافعهم بدهاءٍ بالغ نحو المنتفضين، فارتكبوا مجزرة مروّعة، استشهد فيها آلاف المسلمين من أبناء الانتفاضة.
كما أصدر العلماء، عبر المنابر والمدارس والأماكن العامة، فتوى الجهاد في مواجهة هذه الفتنة، وكشفوا للناس جميع أبعادها الخطيرة، وحذّروهم من أخطار الشيوعية، فعبّؤوا عقول الجماهير وحصّنوها في وجه هذه المؤامرة.
وفي الوقت الذي كانت فيه سماء أفغانستان ملبّدة بالدخان والغبار، وكانت قوات الاتحاد السوفيتي منشغلة بتدمير بيوت الأفغان الطينية، حافظ العلماء، رغم قسوة الظروف، على بقاء المدارس الدينية حيّة، وربّوا قادة فكريين لمواجهة هذه الفتنة، ليعملوا في صميم المجتمع ويحفظوا عقول الناس من الانزلاق وراء الفكر الشيوعي الباطل. وهذه أمثلة قليلة على ما بذله العلماء والمفكرون الأفغان من جهدٍ صلب، رغم شحّ الإمكانات، في مواجهة هذا الغزو الفكري، حتى أُحبِطت هذه الفتنة وبقيت فاشلة، والحمد لله.
غير أنّ عامة الشعب لم يقفوا موقف المتفرّج؛ فكما ورثوا تاريخ المقاومة عن آبائهم، شدّ الأبناء الأحزمة وخرجوا من بيوتهم، واتخذوا المتاريس في وجه الجيوش الحمراء. بدأت هذه المقاومة من الولايات الشرقية وكابُل، ثم امتدّت لتشمل أنحاء أفغانستان كافة. لقد سعى الاتحاد السوفيتي إلى ترسيخ الشيوعية في أفغانستان، فأرسل مئةً وثلاثين ألف جندي بغرض الاحتلال، غير أنّ هذا الشعب لم يسمح له بذلك؛ فقدّم مليونًا ونصف المليون شهيد، وتعرّض ملايين آخرون للجراح والتشرّد، لكنه أوقف هذا السيل الجارف وصدّ زحفه.
لقد شمروا بأنفسهم عن سواعدهم للجهاد؛ فمنهم من كان يقدّم الطعام للمجاهدين، ومنهم من يعينهم في نقل السلاح. وكان الشيوخ والعجائز يحثّون أبناءهم على الجهاد، يشدّون على أوساطهم، ويغرسون في نفوسهم معاني الشرف والغيرة، ويروون لهم قصص الأجداد والآباء. وهؤلاء الفتية أنفسهم هم من وقفوا في وجه الدبابات السوفيتية المجنزرة، وواجهوا تلك الآليات الحربية المنيعة بأيدٍ عارية، فكان النصر في نهاية المطاف من عند الله تعالى.
بل إنّ الغزو السوفيتي هُزم في هذه الأرض حتى على يد الجماد والنبات؛ فكل صخرة وكل شجيرة كانت تمنح المجاهد ملجأً، ينهض من خلفها فجأة، فيقضي على عدد من الجنود الروس. وإنّ انتصار هذا الجهاد الذي استمر عشر سنوات، إن كان من جهة ثمرةً للعزائم الصلبة للشعب الأفغاني، فهو من جهة أخرى سلسلة من الكرامات التي لم يكن للعالم أن يتصوّرها. غير أنّ العالم كان يدرك حقيقة واحدة: أنّ نصر الله تعالى غالبٌ على كل شيء.


















































