في ظلّ راية النظام الإسلامي البيضاء، ينهض هذا الأفغانستان الجديد والمتجدّد، وهو يستنشق أنفاس الاستقلال ويستعيد موقعه المركزي في جسد الأمة الإسلامية. غير أنّ هذا البلد، عبر تاريخه المعاصر، عاش فصولًا شديدة المرارة من الغزوات والاحتلالات والحروب الفكرية، كان من أبرزها غزو السادس من جدّي على يد الاتحاد السوفييتي وحلفائه.
لم يكن السادس من جدّي مجرّد بداية لغزو عسكري؛ بل كان فرضًا صريحًا لإيديولوجيا عالمية باطلة (الشيوعية). كما أنّ الفترة اللاحقة الممتدة لعشرين عامًا من الاحتلال الأمريكي مثّلت نموذجًا مشابهًا للاحتلال، ولكن بصيغة جديدة: احتلال ناعم، ثقافي وسياسي.
تنطلق هذه المقالة من تلك التجارب لتحليل واقع أفغانستان بعد الغزوات والاحتلالات، مع تسليط الضوء على الدور المركزي للعلماء:
الاحتلال ليس ظاهرة عسكرية فحسب
أثبتت التجارب التاريخية أنّ الاحتلال لا يقتصر على الدبابات والطائرات والأسلحة والجيوش، بل هو حرب مركّبة تستهدف القضاء على الفكر السليم، والعقيدة، والثقافة، والتقاليد، والهوية الوطنية. فقد جلب غزو السادس من جدّي الشيوعية، بينما حمل الاحتلال الأخير الليبرالية والعلمانية وثقافة الاستهلاك، وكان الهدف المشترك لكلا الغزوين:
إضعاف جذور الإيمان لدى الأفغان.
كسر إرادة الاستقلال والمقاومة.
صناعة عقول تابعة بدل العقول الحرة المستقلة.
وعليه، فإن نهاية الاحتلال لا تعني مجرد خروج الجيوش الأجنبية، بل تبدأ بعد انسحابها أخطر المعارك في ميدان الأفكار والقيم.
فلسفة «الدنغ والطنغ»؛ غلبة الإيمان
إن فلسفة «الدنغ والطنغ» في زمن الأتراك، وهي صفحة مشرقة من التاريخ الذهبي للشعب الأفغاني الأبيّ، ليست مجرد ذكرى حماسية، بل مبدأ عميق من مبادئ الجهاد الإسلامي. فـ«الدنغ» وإن كان رمزًا لضعف الوسيلة، إلا أنّ التوكّل الصادق المصاحب له دليل على قوة لا تُقهر.
تؤكد هذه الفلسفة أنّ نتيجة الحرب لا تُحسم بثقل السلاح، بل بقوة العقيدة. وقد تكرّست هذه الحقيقة في مواجهة السوفييت ثم في مواجهة حلف الناتو، حيث تبيّن أنّ الاحتلال يُهزم حين يسحب الشعب عنه شرعيته، ولا يتحقق ذلك إلا بالإيمان والمطالبة بالحق.
أخطر المراحل بعد التحرير
عندما تخرج دبابات الغزاة وتبقى أفكارهم، وحين ينتهي الاحتلال العسكري بينما يظلّ النفوذ الثقافي حيًّا، تبدأ أخطر مرحلة على الأمة. ففي هذه المرحلة:
يحلّ الانتقام محلّ العدالة.
يحتلّ الخلاف الداخلي مكان العدو الخارجي.
يبيع الناس قيمهم بثمن بخس بدافع الإرهاق والتعب.
لذلك، فإن الحرية ليست نصرًا فحسب، بل هي اختبار عظيم أيضًا.
المسؤوليات التاريخية للعلماء
في زمن مقاومة الاحتلال، يكون كل مجاهد في الصدارة، لكن في مرحلة ما بعد الاحتلال تقع أعظم المسؤوليات على عاتق العلماء، ومن أبرز واجباتهم:
مداواة الجراح:
لا تقتصر مهمة العلماء على علاج الجراح الجسدية، بل إن الجراح الفكرية والروحية أولى بالعلاج، إذ يحتاج المجتمع الخارج من أهوال الحرب إلى الخطاب اللين، والحكمة، والصبر.
تحقيق التوازن بين السلطة والشعب:
يجب على العالم ألّا يكون عبدًا للسلطة، ولا مُشعِلًا لنار الفتنة، بل ناصحًا بالحق، لا منافسًا على القوة.
منع التفرقة:
يثبت التاريخ أنّ أفغانستان كانت تُضعف من الداخل أولًا، ثم يتمكن العدو منها. لذا يجب أن يكون العلماء حصن الوحدة الأخير، لا أن يُستَخدم المنبر العام لفرض الآراء الشخصية أو تجاوز الحدود الجماعية بدافع الأذواق الفردية.
التعريف الشرعي للاستقلال:
الاستقلال ليس مجرد التحرر من الاحتلال الأجنبي، بل هو أن تكون القرارات، والقوانين، والثقافة، والقيم منبثقة من الإسلام والوجدان الوطني. والعلماء أدرى الناس بهذه القضية، وهم الأجدر بتحمّل مسؤوليتها.
إذا صمت العلماء؛ تكرّر التاريخ:
لا يجوز للعلماء أن يلتزموا الصمت؛ بل يجب عليهم مراجعة الجهات المعنية في كل قضية، ومناقشتها بالحجة العلمية الرصينة، وتوعية الناس؛ لأن التاريخ أثبت أنّ صمت العلماء يفتح المجال للجهّال، ومع ترك النصيحة يولد الاستبداد، وإذا صمت العدل تعالت أصوات الفتنة. ولهذا فإن صمت العلماء أخطر من الاحتلال نفسه.
الخلاصة
الحمد لله، لقد هُزمت احتلالات وغزوات التاريخ الأفغاني المعاصر بشجاعة وبسالة، غير أنّ الواجب يقتضي استخلاص درسٍ عظيم من تلك التضحيات، وهو أنّ أفغانستان لا يمكن أن تبقى دولة مستقلة حقًا، وآمنة من شرور الآخرين، إلا إذا:
بقيت روح «العصا والنار» حيّة في عقول الأفغان.
ظلّت فلسفة الإيمان والتوكّل نابضة في المجتمع.
وكان العلماء بلسمًا لجراح هذا الوطن، لا سببًا لجراح جديدة.
فإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة، فلن يتحقق حلم أي معتدٍ بالهجوم على هذه الأرض مرة أخرى ـ بإذن الله العزيز ـ، والعلماء الكرام هم الأقدر على تحقيق ذلك، وهي مسؤوليتهم الكبرى.

















































