بنى العلامة الكوراني مسجدًا في إسطنبول، وأقام فيه مدرسة سماها دار الحديث، فاشتهر اسمه في الآفاق، وامتلأت حجرات المدرسة بالطلاب. أسهم إسهامًا كبيرًا في نشر العلم، وتخرج على يديه كبار العلماء. حجّ سنة 761هـ، وظل يعيش في جلالٍ وهيبةٍ حتى توفي في أواخر سنة 793هـ، وقد أقيم عليه صلاة الجنازة من غير أن يحضر السلطان، مع أن جمهورًا غفيرًا من الناس شاركوا في جنازته.
وقد ذكر مؤلف كتاب «الشقائق النعمانية» حياة العلامة الكوراني وأحواله وصفاته بأحسن بيان؛ فكان إذا تحدث مع السلطان لا يناديه إلا باسمه، ولم يكن يجلس أمامه، ولا يقبّل يده. وكان لا يزوره في قصره إلا إذا استدعاه السلطان بنفسه، وإلا فلا يدخل عليه أبدًا.
وذكرت الكتب له مزایا كثيرة، تُظهر أنه كان من العلماء العاملين بعلمهم. وكان السلطان محمد الفاتح إذا علم بوجود عالم في مكان ما يعاني من الفقر، يسارع إلى زيارته، ويطمئنه ويعاونه، حتى يغنيه عن شؤون الدنيا.
العادات العلمية للسلطان محمد الفاتح
كان من عادة السلطان محمد — رحمه الله — أنه بعد صلاة الظهر في رمضان يدخل القصر السلطاني، ومعه جماعة من العلماء والمفسرين، فيفسّر أحدهم آية من القرآن كل يوم، ويتباحث معه العلماء الآخرون في مسائل التفسير. وكان السلطان يشاركهم بنفسه في النقاش والبحث، ويكرم العلماء بالهدايا والعطايا.
تقدير الأدباء والشعراء
يذكر أحد المؤرخين العثمانيين أن السلطان محمد الفاتح كان رائدًا في رعاية الأدب، وكان هو نفسه شاعرًا كبيرًا. حكم ثلاثين سنة، وكانت تلك السنوات الثلاثون أعوامًا حافلة بالخير والتقدم والبركة. اشتهر بلقب «أبي الفتح» لأنه غلب الملوك المستقلين، وفتح سبع دول ومئتي مدينة، ورفع من شأن العلم والعمل، حتى لقب أيضًا بـ «أبي الخيرات».
كان السلطان يُكرم الأدباء عمومًا، والشعراء خصوصًا، فيأذن لهم بالدخول إلى مجلسه، ويصحبهم في أسفاره، وكان عدد شعرائه المقربين نحو عشرين شاعرًا، من أبرزهم: أحمد باشا، ومحمود محمد باشا، وقاسم الجزري باشا. وكان لكل شاعر منهم راتب شهري يقارب ألف درهم.
وكان السلطان يحب أن يخلّد الشعراء أعماله وإنجازاته الأدبية والعلمية في قصائدهم، لكنه كان لا يرضى عن الشعر الخارج عن الأدب أو المتضمن للفحش، فإذا تجاوز شاعر حدود الأدب، أمر بحبسه أو طرده من بلاطه.
جهوده في ترجمة الكتب
كان السلطان محمد الفاتح يجيد اللغة الرومية، وقد أمر بترجمة العديد من الكتب باللغات اليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية؛ لتعزيز التقدم الفكري في العالم الإسلامي ومن بين هذه الكتب كتاب «تراجم الرجال» لبلوتارخ الشهير.كما أمر بترجمة كتاب «التصريف في الطب» للعالم الأندلسي الإمام الزهراوي، وهو من أعظم علماء الطب والجراحة، وأضاف السلطان إلى الترجمة صورا لأدوات الجراحة التي كانت تُستخدم في العمليات الطبية.
ولما بلغ السلطان كتاب بطليموس في الجغرافيا، وجد فيه خريطةً مثيرة لاهتمامه، فبدأ بدراستها بنفسه، واستعان بالعالم الرومي جورج أميروتروس، وطلب منه ومن ابنه — اللذين كانا يتقنان الرومية والعربية — أن يترجما الكتاب إلى العربية ويحقّقاه ويعدّا خريطة جديدة. فأعدّ العالمان نسختين: إحداهما بالعربية والأخرى بالرومية، فأثنى السلطان على عملهما وكافأهما مكافأة سخية.
وكتب العلامة علي قوشجي — وكان من كبار علماء الرياضيات والفلك في عصره — كتابًا بالفارسية، ثم ترجم منه نسخة إلى العربية، وأرسلها هديةً إلى السلطان محمد الفاتح

















































