مولده وتعليمه:
كان الشهيد المجاهد سعيد نثار أحمد “مخبت” – رحمه الله – رمزًا للشجاعة والبطولة، ثابت العقيدة، قوي العزيمة والإرادة، مناضلًا صلبًا في سبيل الحق، حاملًا لفكر جهادي رفيع وذو طبع هادئ. هو ابن “خواني”، وحفيد “عزيز خان كاكا”، من سكان قرية “چهاردهي” الجميلة والمليئة بالشهداء، التابعة لوادي “شنېز” في مديرية سيد آباد بولاية ميدان وردك. وُلد في عام 1369 هجري شمسي (حوالي 1990 ميلادي) في أسرة متدينة وتقية.
كان نثار أحمد طفلًا صغيرًا حين أخذه والده إلى إمام مسجد القرية ليتلقى أولى دروسه الدينية والعقائدية، فبدأ تعليمه في أجواء المسجد.
التحق لاحقًا بثانوية “باغك” وتلقى تعليمه حتى الصف الثاني عشر، وبعد التخرج نجح في امتحان القبول الجامعي (كانكور) وتم قبوله في كلية التربية بجامعة ننكرهار، تخصص رياضيات.
إلى جانب دراسته الجامعية، كان يؤدي مسؤوليته الجهادية ضد الاحتلال الغربي، فكان يقضي عطلته في جبهات الجهاد، ويشارك المجاهدين في ولايات ننكرهار، كونر ولغمان، مدافعًا كتفًا إلى كتف معهم. ونتيجة لشدة حبه للجهاد، غلب عليه هذا الطريق، فترك الجامعة في الفصل السابع، وكان يقول: “لم أعد أحتمل البعد عن إخوتي المجاهدين.”
الشهيد نثار أحمد مخبت في ميدان الجهاد:
كان مخبت شخصية مجاهدة، ملتزمة وخادمة، أقلق قلبه احتلال البلاد من قبل الأجانب. وبعد استشهاد قائده محمد جمال “أبو منصور” (تقبله الله)، اختاره رفاقه المجاهدون قائدًا لهم.
منحه الله ﷻ موهبة في التخطيط والتكتيك الحربي. وكان يفهم الإسلام فهما حقيقياً، مجاهدًا عقائديًا، أتذكر في أيام الهدنة التي استمرت ثلاثة أيام، حينما تصافح بعض المجاهدين مع جنود الحكومة، جلس مخبت بجانب مركزه وذرفت عيناه الدموع، ولم يسمح لأحد من رفاقه بالتحرك من المركز.
عندما بدأت المعركة ضد “الخوارج” (داعش) في ولاية ننكرهار، انتقل الشهيد مخبت إلى هناك كقائد لتشكيل جديد من المجاهدين. هناك ألحق الهزيمة الشديدة بمشروع الغرب الجديد، وحرر العديد من المناطق من وجود داعش.
ولما رأت قوات الاحتلال تقدم المجاهدين على داعش، تحركت فورًا وشنّت غارة ليلية بكامل قوتها على الشهيد مخبت ورفاقه. وقد استُشهد أغلب المجاهدين الذين كانوا معه في تلك الغارة، لكنه نجا بنفسه من الموت. روى الشهيد مخبت تفاصيل تلك الغارة بهذه الكلمات:
كان رفاقنا المجاهدون مقسومين إلى قسمين: نصفهم في المركز، والنصف الآخر في مسجد مكوّن من طابقين، وكنت أنا مع المجموعة التي في المسجد. وعندما أرخى الليل ستاره، غطّت الطائرات السماء، وطوّقت قوات الاحتلال المنطقة من كل جانب.
لكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من قبل المجاهدين، فلم يستطيعوا الاقتراب منا. وبعد فترة قصيرة، سُمع دويّ انفجار قوي، وساد الظلام عينيّ، وعندما أفقت وجدت نصف جسدي مدفونًا تحت الأنقاض، والغبار يتصاعد، ورائحة البارود تملأ الأجواء.
لقد قصفوا المسجد، وانهار علينا، واستُشهد معظم إخواننا المجاهدين. كنت أنا وأحد رفاقي مدفونَين جزئيًا تحت الأنقاض. أخرجت يدي من تحت الركام، ووجهت بندقيتي نحو الغزاة والخونة الذين اقتربوا.
كان رفيقي مصابًا بجراح بليغة، يعاني من آلامه، وفي تلك اللحظة شنّ الدرون ضربة ثانية، وأكمل دمار المسجد فوقنا، لكنني بقيت حيًّا، إصبعي على الزناد، مستعدًا لأي مواجهة. إلا أن العدو لم يقترب منا، بل اتجه مباشرة نحو مركز المجاهدين، وهناك استُشهد أيضًا عدد من إخواننا.
في النهاية، انسحب العدو وعاد إلى طائراته، وجاء المجاهدون وأهالي القرية يجمعون الشهداء. ثم وصلوا إليّ، واستخرجوني من تحت الأنقاض، كنت مصابًا بجروح خطيرة، وملابسي ملوثة بالدماء، فقدت كمية كبيرة من الدم، وكانت الرؤية تضعف في عيني. بعد ذلك، نقلني الإخوة المجاهدون إلى المستشفى الميداني، ونقلوا الشهداء إلى ذويهم ليواروا الثرى. الشهادة:
روى أحد رفاقه قصة استشهاد الشهيد مخبت فقال:
في وقت العصر، سيطرت الطائرات على الأجواء، وأدركنا أن الليلة ستكون فيها مداهمة. وبعد صلاة العشاء مباشرة، بدأ القصف الجوي. انقسمنا إلى مجموعتين، ولم نعد نعلم عن حال بعضنا حتى الصباح، كانت الليلة تمر كأنها يوم القيامة.
كان الفجر على وشك البزوغ، والظلام لم ينجلِ بعد، إذ جاءنا نَبأ استشهاد مخبت. توجهنا فورًا نحو الجهة التي ذُكر أنه استُشهد فيها، وعند وصولنا، رأينا مشهدًا تقشعر له الأبدان: رجل جالس وقد وضع آخر رأسه على ركبته، اقتربنا مسرعين، لم أصدق عيني، ذُهلت!
كانت دموع وقاد قد جفّت وهي تسيل، وكان معتَصم قد أسند رأسه على ركبة وقاد. وجهه مغطى ببقع من الدم الأحمر، وبه جروح عميقة، وصدره مثقّب وملوّث بدماء الشهادة. جلست قربه وأضأت وجهه بضوء الهاتف، فبدا جميلًا جدًا، وجهه الأبيض أصبح مائلاً للصفرة، تزينه آثار الجروح والدماء.
أخذ وقاد رأس الشهيد معتصم ووضعه في حجري، وقال لي بصوت مختنق بالبكاء: “أرى مخبت وبلال أمامي”. جلست إلى جوار الشهيد معتصم، وضعت رأسه في حضني، لم أعد أشعر بنفسي، أصبحت أتكلم معه كالمجنون، أقول له: “معتصم! قم يا أخي، لا تمزح! لا تُحزن رفاقك! إنه بخير، قم!”، لكنه كان قد دخل عالمًا جديدًا، لا يسمعني، ولا يجيبني.
وما زلت أحدثه حتى سمعنا أصوات بكاء وعويل قادمة من الأمام، وضعت وشاحي على رأس الشهيد وقمت مسرعًا نحو الصوت، مررت بأشجار السَنجد، ثم رأيت منظرًا لا يمكن وصفه حتى في يوم القيامة!
مرّرت يدي على عينيّ، قبضت بشدة على مرفق يدي الأخرى، تألمت، فعلمت أنني في وعيي، لا أحلم. لا، لم يكن حلمًا، كل شيء كان حقيقة. مخبت قد تلقى ضربة قوية على وجهه، لم يبقَ سوى أنفه وفمه سليمين، وبقية جسده كان ممزقًا بالأشلاء والجروح.
كانت إحدى ساقيه مصابة لدرجة أن العظام كانت ظاهرة. بدا الأمر وكأن الاحتلال أراد أن ينتقم منه بسبب ما ألحقه من خسائر بداعش، إذ إن مخبت قد قتل عددًا كبيرًا منهم في ولاية ننجرهار.
وإلى الأعلى قليلًا، كان بلال قد تمزق جسده تمامًا، لدرجة أن العين لا تطيق النظر إليه، بل إن أشلاءه كانت عالقة حتى في أغصان شجرة السَنجد! بدا المشهد كأن ريح الخريف قد بعثرت بتلات الورود.
في تلك الليلة العنيفة، استخدم العدو كل أدواته من طائرات وقصف بأسلحة خفيفة وثقيلة، لم يدخر جهدًا في ارتكاب أبشع صور الوحشية ضد المجاهدين وأهالي المنطقة. وقد تحوّلت وادي شنيز الجميل – الذي كان معقلًا للمجاهدين، وبيتًا للشهداء، وحصنًا للغزاة – إلى بساط حزن، بفقدان القائدَين البطلَين: الشهيد نثار أحمد “مخبت” والمهندس حيات الله “همت”، بالإضافة إلى أحد عشر شهيدًا آخرين.
والله حسيبهم، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.
تاريخ الاستشهاد: ليلة الأحد الدامية، التاسع من شهر جدي، عام 1397 هـ.ش.