الوحدة الدموية؛ تحليل لانحرافات داعش الطائفية في ضوء ادعاءاتها عن الوحدة الإسلامية
امتدادًا للجزء السابق:
إن الخلافات الفقهية في الإسلام كانت موجودة دائمًا، وهي علامة على ثراء الدين ومرونته. فقد أقرّ الإسلام بوجود جميع المذاهب الفقهية، ودعا المسلمين إلى العيش المشترك مع احترام هذه الخلافات. لكن داعش جعلت من هذه الاختلافات ذريعة للتكفير والقتل والظلم.
في حين أن الإسلام يطرح “الإجماع” و”الاجتهاد” كوسائل لحل الخلافات، رفضت داعش هذه المفاهيم، وقدمت نفسها بوصفها صاحبة السلطة الوحيدة على “الحقيقة الدينية”. وهذا انحراف كامل عن الروح الإسلامية التي أكدت دائمًا على مبدأ: «الشُّرَعاءُ إخوة في الدين». لكن هذه الجماعة وأتباعها استغلوا بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن الوحدة على نحوٍ مغاير لحقيقتها. فقد استعملوا آية: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ذريعة لقمع أي اختلاف، بينما كبار المفسرين، ومنهم الفخر الرازي، شددوا على أن الوحدة لا تعني «التفكير الموحد»، بل تعني “التعايش السلمي رغم الاختلاف”. لقد حرّفت داعش هذا المفهوم تمامًا، فشوّهت صورة الإسلام أمام الغرب، وأدخلت الشك إلى قلوب كثير من البسطاء من المسلمين.
ومن اللافت أن داعش كانت ترفع في دعايتها شعار “أعداء الخلافة الإسلامية والأمة الإسلامية”، لكنها في الواقع ارتكبت معظم جرائمها ضد المسلمين أنفسهم. وتشير الإحصاءات الصادرة عن منظمات دولية إلى أن أكثر من 80% من ضحاياها كانوا من المسلمين، مع أن تاريخ الإسلام، حتى في أوقات الفتن الداخلية، حفظ للمسلم حرمة حياته. لكن داعش لم تُعر لهذه المبادئ أي اعتبار، وسفكت دماء الأبرياء بتبريرات سطحية.
وعلى المستوى الاجتماعي، أشاعت الجماعة التكفيرية الانقسام بين القوميات والمذاهب، فمنعت الزواج بين المذاهب، وقيّدت التفاعل الاجتماعي، بل أنشأت في بعض المناطق أماكن منفصلة لأتباع الفرق المختلفة، في حين أن الإسلام يرحب بتنوع الثقافات والقوميات.
أدت هذه السياسات إلى خلق أجواء من الخوف وانعدام الثقة بين المسلمين، حتى إن الكثير من الأسر كانت تتجنب الحديث مع جيرانها خشية أن تُتّهم بالردة. وهذا على النقيض تمامًا من النموذج الإسلامي المثالي الذي يقوم على المحبة والأخوّة.
ويُظهر تحليل هذا الواقع أن داعش والجماعات المرتبطة بها لم تخدم وحدة الأمة الإسلامية، بل على العكس، ساهمت في تمزيقها، وفتحت الباب أمام أعداء الإسلام للتدخل. لقد حرّفت داعش الإسلام، وأضعفت الأمة من الداخل باستخدام التكفير والعنف والخوف أدواتٍ لسيطرتها.
والخلاصة أن حاجتنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هي إلى إعادة تعريف المفهوم الحقيقي للوحدة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم وسيرة رسول الله ﷺ؛ وحدة لا تعني تماثل الأفكار، بل تعني الاحترام المتبادل والتعايش السلمي بين المسلمين. فالإسلام دين العدل والرحمة والأخوّة، وليس دين العنف والتكفير والتفرقة التي صنعتها داعش.


















































