التهذيب والتحضّر هما الدليل الأصدق على هوية الإنسان الحقيقية؛ فهما فنٌّ يجعل حتى الفقيرَ أعزَّ من الأغنياء، ومن امتلك هذا الفن نال الاحترام أينما حلّ، وعاش حياة تترك أثرًا في قلوب الناس وأفكارهم.
وعلى النقيض من ذلك، فإن من حُرموا من منبع التهذيب، مهما بلغوا من علوم، أو تفوّقوا في فنون، أو وصلوا في الإمكانات المادية إلى عنان السماء، بل حتى وإن لم يُجارِهم أحد في المهارات أو الثروات، يظلّون محتقرين بين الناس. فأيًّا كان كلامهم، ومهما تكلّموا في أي موضوع، لا يُصغَى إليهم بسبب دناءة سلوكهم؛ أفعالهم مثيرة للّوم ومبعث للخزي، وهم في حقيقتهم صورةٌ صارخة لسوء الخُلُق.
وفي الوقاحة، والسباب، والشتم، وسوء المعاملة، وقلّة الحياء، وفحش الكلام، لا يُجارَون، وهو أمر ظاهر للعيان.
ولم يكن هؤلاء ممن جهلوا طرق التهذيب منذ البداية، بل إن لحالتهم أسبابًا وعللًا. ولا حاجة إلى بحثٍ فلسفيٍ عميق لتفسيرها؛ فمثال بسيط يكفي: في أسرة صغيرة، قد يتوهّم أحد أفرادها—بدافع دهائه وخداعه—أنه ذو شأنٍ عظيم، فيصاب بداء العظمة. وقد تنطلي حيله أحيانًا فيستغلّ السذّج والعاجزين، غير أنه إذا صادف إنسانًا رزينًا من بيتٍ كبير، قابله ذلك الوقور بالحلم والصبر. فإذا لم تُجدِ هذه الطريقة، لجأ الرزين إلى أسلوب يحبط مكائد المحتال تمامًا؛ وحين يفشل المحتال في المضي بالحسنى، ينكشف عجزه، فيتوسّل بسوء الأدب، ويقدم على أفعال لا تُوصَف لقبحها.
وقد يقتصر نقص التهذيب والتحضّر على أفرادٍ معدودين، وقد تنحدر إليه دولٌ بأكملها ومن يتولّون شؤونها، بل قد يُصاب به أتباعُ دينٍ أو مذهبٍ ما.
وفي صدر الإسلام، اتّهم القرآن الكريم طائفةً من اليهود الذين حملوا الدين اسمًا لا حقيقةً بسوء الأدب والوقاحة؛ تلك الفئة الشقيّة التي انتظرت النبي العربي ﷺ قرونًا، فلما بُعث عادته بعداءٍ غريبٍ جدًا. كانوا يمنّون بإحسانهم على الناس ثم يوبَّخون، وينسبون إلى الله الافتراءات، لأنهم حُرموا من التهذيب، وفقدوا الرزانة ووقار الطبع.
واليوم كذلك، تعاني دولة باكستان وحلقاتها الحاكمة أزمةً أخلاقيةً عميقة. أما وجود التهذيب لديهم أو انعدامه فهو بحثٌ آخر، غير أن الأفعال الصادرة عن هذه الطبقة في هذه الأيام تكشف بوضوحٍ عن ضياع التحضّر لديهم. فذلك الذي اعتلى منصب وزارة الدفاع، ولسانه يدور كلسان الببغاء، قد سجّل رقمًا قياسيًا عالميًا في قلّة التهذيب يصعب تجاوزه.
كان بالأمس يوجّه الاتهامات لقواته، واليوم يُرضيهم باتهام الآخرين، في مشهدٍ لا يختلف عن سلوك اليهود قديمًا؛ إذ انتظروا طالبان سنواتٍ طويلة، فلما ظهروا لم يترك هذا الرجل قبيحًا إلا أتى به. ورغم أن موقف طالبان العظيم في تورا بورا بننغرهار—حيث صانوا ضيفهم العزيز—يُعدّ صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، فإن هذا الوزير يذكره ساخرًا ويهدّد قائلاً إنه سيعيدهم إلى تلك الحال!
من الواضح أن سوء الأدب قد قتل ضميره؛ فإن أعمال الإحسان تلك لا تُرى قبيحةً إلا حين تُغطَّى البصيرة بغشاوةٍ كثيفة.
لقد كانت نفس القوة الإيمانية التي مكّنت طالبان—رغم الفقر والعوز، والسفر والهجرة، والسجن والخيام—من تذليل العقبات وإخضاع أهل الكفر، تُلهم هذا الوزير يومًا ما، حتى كتب على جداره: «إن كانت القوى لكم، فالله لنا». لكنه اليوم يحوّل ذاك الشعور الإيماني إلى مادةٍ للسخرية، ويوجّه مع طالبان كلماتٍ فارغةً طائشةً إلى شعب أفغانستان كلّه. ومثل هذا الكلام لا ينقص من عزّة الشعوب الوقورة شيئًا، لكنه يُلقي بقائله في حضيض المهانة، ويجعل الجميع شهودًا على انعدام تهذيبه وتحضّره.
أما المتحدث باسم جيش الحلقة الحاكمة (DG ISPR)، ففي قضيةٍ شخصية، يتلفّظ بأوصافٍ بذيئة بحقّ مؤسس أكبر حزبٍ وزعيمٍ وطنيٍ في باكستان، وهي كلمات لا مكان لها في أي معجمٍ مهذّب.
هؤلاء أيضًا—كاليهود—ظلوا لسنوات يقولون للأمة إن عمران خان هو المنقذ، وإنه قدر يقظتها، وسيخلّصها من أيدي اللصوص والناهِبين. ولأجل ذلك تحدّثوا بكل الأساليب عبر الإعلام. لكن لما بدأ عمران خان فعلًا في إنقاذ الأمة وفضح من اعتدى عليها، انقلبت هذه الحلقة عليه وسجنته بتهمٍ وملفّاتٍ باطلة.
وحين خرجت الأمة تطالب بحريته، رفعت هذه المؤسسة شعار حبّ الوطن؛ فلما لم يُجدِ، لجأت إلى الوقاحة العلنية، فبدأت تسبّ الناس وتشتمهم، دون حرمةٍ لبلادٍ أو كرامةٍ لمواطنٍ شريف.
لقد تدخلوا في السياسة دون إدراكٍ لمواضعهم، ودون أن يعرفوا معنى الوقار واللياقة، وخلاصة القول: كلّما سمعت اليوم كلام هذه الطبقة، خطر ببالي أن المثل الشهير:
«جادو جو سر چڑھ کر بولے» (السحر الذي يصعد إلى الرأس ويتحدث) ينبغي أن يُبدل إلى «قلة التهذيب التي تصعد إلى الرأس فتتكلم»؛ لأن قلّة تهذيبهم صارت أمثالًا تُروى على الأفواه.

















































