شعلة طاهرة في ظلمات الزمن، وشعرٌ مكتوب بلغة الشجاعة، وإنسان راسخ بطباع تشبه الأخلاق النبوية، تفسيرٌ لنقاء الضمير، وظلٌّ وادع من ظلال درب الشهادة الذي ينثر عليه الشعبُ زهورَ الفخر. الشهيد السعيد حافظ محمد ظاهر “وارث”، ابن فضل ربي، من سكان قرية قلعة عبد الوهاب في مديرية نرخ بولاية ميدان وردك، وُلد في أسرة متدينة ومجاهدة في تاريخ 24/3/1374 هـ.ش.
كان الشهيد وارث تقبله الله طفلاً صغيراً حين تلقّى علومه الدينية والعقدية الأولى على يد إمام قريته، ثم التحق بثانوية الدكتور عبد الوكيل، وبعد هذه الدروس أكمل حفظ القرآن الكريم في قرية توكرَك في مدرسة عمر فاروق (رضي الله عنه).
وبحسب رواية أخيه محمد هارون، فإن ظلم المحتلين وعملائهم الداخليين في ولاية ميدان وردك تجاوز حدود الاحتمال، حتى طالت هذه المظالمُ أسرتَهم أيضاً، إذ كانت الميليشيات الداخلية تُرسل التهديدات إليهم باستمرار وتتوعدهم بإجبارهم على ترك قريتهم.
كان أخونا حافظاً للقرآن العظيم، من أهل الدين والعقيدة. ولهذا خيّمَت غيمةُ الابتلاءات على أسرتنا، حتى إن والدنا الشيخ المسنّ سمع كلاماً جارحاً ومؤذياً. وكان وحوش الجمهورية يسيئون المعاملة كثيراً لأسر المتدينين وأهل الالتزام.
وتزايدت العراقيل أمام أخي في طريق العلم يوماً بعد يوم، حتى اضطر لترك دراسته، وفي عام 1392 هـ.ش رفع راية الإيمان والغيرة في ميدان الجهاد. وقضى بقية عمره في ساحات الجهاد الملتهبة، يجاهد بلا كلل لرفعة دين الله ولتحرير الوطن.
شارك في العديد من المعارك مشاركة فعّالة، وكان إلى جانب مهاراته القتالية أستاذاً ماهراً في مجال المتفجرات وأحد معاوني السرية الحمراء. وقد واجه العدو الداخلي والخارجي في منطقته بمقاومة شديدة، حتى إنه كان حاضراً في كل هجوم وكمين يقع في منطقته.
كما جاهد بشجاعة وبسالة كاملة ضد خوارج العصر. وسافر مع رفاقه عدة مرات ضمن تشكيلات عسكرية إلى ولاية ننغرهار. وكان يروي قصة فيقول: “أثناء القتال قبضنا على أحد أفراد داعش حياً، وكان حافظاً للقرآن العظيم، ولأنني كنت حافظاً أيضاً لم يطاوعني قلبي. وعندما تواصلنا مع القادة، وقلنا لهم: هذا حافظ، فماذا نفعل به؟ جاءنا الأمر بقتله. وبعد يومين عدنا إلى جثته، أتدرون ماذا حصل؟ كانت تفوح منها رائحة كريهة وقذرة ونتنة، بينما شهداؤنا كانوا يبقون في ساحة الحرب تحت الشمس لأشهر دون أن تتغير أجسادهم أو تنبعث منها أي رائحة. هذه الحادثة زادت يقيننا وثباتنا. ومنذ ذلك اليوم لم أعد أرحم أحداً منهم أبداً”.
وعندما عاد إلى ولايته، نفّذ في 27/3/1396 هـ.ش، في شهر رمضان المبارك، عملية مخططة في مركز مدينة ميدان ضد الميليشيات الداخلية، فقضى على عدد كبير من أعداء الدين، ونال هو أيضاً كأس الشهادة.
نحسبه كذلك والله حسيبه.
ونسمع من أخيه محمد جاويد روايةً مؤلمة ومشهدًا يبعث على الوجع، يقول: “عندما جلبنا جسد الشهيد وارث تقبله الله إلى البيت، كان المشهد أشد من يوم القيامة. كان الحزن والأسى يطغيان على أهل البيت وأهل القرية. وكانت صرخات النساء والأطفال تمزّق القلوب، لكن أصعب اللحظات كانت عندما بدأت ترتيبات الدفن. قال لنا أحد المشايخ: تفقدوا جيوبه! لأنه لم يتكلم لحظة استشهاده. فتحتُ جيوب أخي الشهيد بقلبٍ مفجوع.
وكان جمع من الناس يقف معنا؛ ووجدنا في جيبه خمسين (50) أفغانيًا، وبجانبه ورقة صغيرة مكتوب فيها دينٌ مقداره 150 أفغانيًا، مع أسماء عدة دكاكين. هذا الموقف وتلك الصورة المؤلمة للفقر ما زالت تبعث ألماً عميقاً في نفوس كل أفراد أسرتنا. كان فراقه موجعاً جداً، لكن ذلك الجيب الفارغ لن أنساه حتى يوم القيامة.
نحن نحفظ ذكرى شجاعته وإيمانه وتضحيته حيّة في قلوبنا على الدوام، لكن في تلك الورقة وتلك القليل من المال تختبئ قصةٌ مرة من الفقر والضعف. لكنه كان حافظًا لكتاب الله، يعيش راضياً رغم كل ابتلاءاته واحتياجاته، حتى إنه في آخر ساعات حياته كان يسجّل ديونه لأصحاب المحلات على الورق.


















































