من صفحات التاريخ؛ الخلافة العثمانیة! الجزء والواحد والستون

حارث عبیدة

بفضل العدل وصلة الرحم نال العثمانيون القوة في أوروبا، وببركة العدل والإنصاف الإسلامي خرجت تلك الشعوب من ظلمات الوحشية والبربرية، وتعرّفت إلى مبادئ المساواة والعدل. وكان استعباد الناس بأبشع الصور نظامًا مدنيًا مقبولًا، قامت عليه اتفاقيات بين وسط وجنوب أوروبا، فجاء العثمانيون فوضعوا حدًّا لهذا الظلم العظيم.

كما كانت هناك اتفاقية قائمة بين دول مولدوفا ووالاشيا والمجر، تقضي بأنه إذا ترك فلاح أرض سيّده ولجأ إلى تلك المناطق، فإن أهل المنطقة يكونون ملزمين بإعادته إلى مالكه الأول.

دخل العثمانيون أوروبا بروح صلة الرحم، كما أيّد ذلك النبي الكريم ﷺ في توجيهه. ولم يكن عدد هؤلاء الأتراك كبيرًا، ولا كانوا يملكون أدوات الحرب المتطورة التي امتلكتها الدول التي فتحوها لاحقًا، ومع ذلك بلغوا القمة وتفوقوا على الجميع. وقد سهّلت صلة الرحم عليهم صعوبات الجبال والبحار والصحارى، كما كانت قد سهّلت من قبل للعرب مسالك آسيا وإفريقيا ببركتها.

سلك السلطان محمد الفاتح طريق صلة الرحم والعدل والإنصاف، وكان يوصي أحفاده بالثبات على هذا النهج ليكونوا المترجمين الحقيقيين للإسلام. وقد بسط رعايته لجميع رعيته دون تمييز، وطبّق عمليًا مبدأ صون حقوق كل فرد من الرعية، مسلمًا كان أو نصرانيًا. وقد سجّلت كتب التاريخ في هذا الشأن وقائع كثيرة لافتة.

ومن ذلك أن تاجرًا من أهل الذمة في جزيرة خيوس كان له دين على سكان الجزيرة قدره أربعون ألف دوقية، وكان اسمه فرانسيسكو دي ريبيريو. عجز هذا التاجر عن تحصيل دينه، فخطر بباله أن السلطان سيفصل في قضيته، إذ كان من رعايا الدولة العثمانية، وكانت الدولة ترى حماية حقوقه من واجباتها.

فأرسل السلطان عدة سفن بقيادة حمزة باشا نحو الجزيرة، لكن أهل خيوس قتلوا بعض الجنود وامتنعوا عن سداد الدين عصيانًا. فقال السلطان محمد الفاتح للتاجر: «إن تحصيل دينك من أهل خيوس مسؤوليتي، وسآخذ منهم أيضًا ضعف الدية عن جنودي الذين قُتلوا». ثم أمر الأسطول البحري بالتحرك، وقاد الجيش بنفسه حتى وصل إلى جزيرة خيوس، فخضع أهلها للسلطان دون قتال. ومع ذلك، دخلت جزيرتا «إيمبروس» و«ساموثراكي» أيضًا تحت سلطته، وفتحتا أبوابهما لجيوش الخلافة العثمانية.

واضطر أهل خيوس إلى سداد دين التاجر، وفرض السلطان عليهم جزية سنوية، كما ألزمهم بتعويض السفن التي غرقت في المرحلة الأولى من القتال. ولا شك أن حماية الرعية وصون حقوقهم من الواجبات الأساسية للإمبراطورية الإسلامية، وأن السعي لنشر الإسلام مسؤولية عظيمة على عاتق حكّام الأرض. ولم ينسَ السلطان محمد الفاتح أثناء الحروب أن السلاح ليس إلا وسيلة واحدة لانتشار الإسلام، لذلك كان يوصي قادته وجنوده بنشر العقيدة الإسلامية.

وكان يثني على القادة الذين تُفتح على أيديهم مدن جديدة. وحين أمر قائده عمر بن طرخان بالتحرك نحو أثينا، فُتحت المنطقة وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الدولة العثمانية. وبعد نحو عامين، زار السلطان محمد الفاتح المدينة وقال: «كم سيكون ابن طرخان سعيدًا لو أن أهل هذا المكان قبلوا دين الإسلام».

أولىَت الدولة العثمانية اهتمامًا خاصًا بالدعوة إلى سبيل الله، وخلّفت في أوروبا آثارًا واضحة لنشر الدين. لكن عندما بدأ ضعف المسلمين، أقدم النصارى على تنصير مسلمي أوروبا بالقوة. ومع ذلك، قاوم المسلمون إلى حدٍّ كبير، والدليل على ذلك أن المسلمين ما زالوا يعيشون إلى اليوم في بلغاريا ورومانيا وألبانيا واليونان ويوغوسلافيا، ويبلغ عددهم مئات الآلاف.

إن وجود المسلمين في أوروبا حتى اليوم هو ثمرة فضل الله تعالى أولًا، ثم جهود الخلافة العثمانية التي بذلتها عبر مؤسسات ووسائل متعددة لنشر الإسلام. وكان من أهم عناصر سياسة الأمراء العثمانيين دعوة الناس إلى الإسلام بالحكمة والعلم وحسن المعاملة.

Exit mobile version