من صفحات التاريخ؛ الخلافة العثمانیة! الجزء الستون

حارث عبيدة

وصية السلطان محمد الفاتح لابنه:

«إني أودّع هذه الدنيا، ولا يعتصرني أسف؛ لأنني أترك من بعدي وارثًا مثلك. يا بنيّ، كن عادلًا، تقيًّا، رحيمًا، وارعَ عامة الناس دون تمييز. وابذل أقصى جهدك في ترقية دين الإسلام؛ فإن على حكّام الأرض أن يقدّموا الشؤون الدينية على كل شيء، وألا يقصّروا في تطبيقها بحال.
ولا تُصاحِب من لا اهتمام لهم بأمور الدين، ولا من لا يجتنبون المعاصي ويقعون في الفساد، وابتعد عن أهل الفساد وعن كل من يُغفلك عن مسؤولياتك، وجاهد، ووسّع حدود دولتِك. واحفظ أموال بيت المال من التبذير، واحذر أن تمتد يدك إلى أموال الرعية إلا بما أذن به الإسلام.
وأوصل الطعام إلى المحتاجين، وأكرِم أهل الكرامة، واعرف للعلماء قدرهم وأحسن إليهم. قرّبهم إليك ولو من الأقاليم البعيدة، وادعُهم إلى مجلسك، وتكفّل بنفقتهم. وإياك والاغترار بسلطانك أو بجيشك. ولا تُبعِد عنك القائمين بتطبيق الشريعة، واجتنب كل عمل يخالفها.
إن إعلاء الدين غايتنا، والسير على نهجه هو سياستنا. انظر إليّ وتعلّم مني: لقد قدمتُ إلى هذه البلاد كطفل، لكن الله تعالى أنعم عليّ بنِعَم عظيمة. فاسلك طريقي، واتّبع أثري، واعمل لإعلاء شأن دينك، وجاهد لحفظ كرامة المسلمين. ولا تُضيّع خزائن الدولة في الترف واللهو واللعب، واجتنب الإسراف؛ فإن ذلك سبب خراب الدول. والتزم العدل، ولا تنسَ الإحسان، وكن رحيمًا».

وكان السلطان محمد الفاتح ملتزمًا بهذه المبادئ، فأحسن المعاملة حتى مع النصارى. فلما دخل القسطنطينية فاتحًا راعى المبادئ الإسلامية في الحرب، وقال: لا تُنتهك حرمة أحد، ولا يُقتل الأطفال ولا الشيوخ ولا النساء، ولا تُحرَق البساتين، ولا تُهلك الحيوانات، ولا تُقطَع أطراف الناس، ولا يُلحَق الأذى بأحد؛ إلا من حمل السلاح على المسلمين.
وكان محمد الفاتح في ساحات القتال يلتزم بعقيدة الإسلام ومنهجه، ويتّبع وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في معاملة الروم، إذ قال: «لا تخونوا، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تؤذوا قومًا انقطعوا في الصوامع للعبادة… وانطلقوا باسم الله».
دخل السلطان محمد الفاتح قلب الدولة البيزنطية، وقدّم للعالم المسيحي الغربي درسًا عالميًا في العدل والرحمة، وجعل ذلك ذكرى خالدة للخلافة العثمانية. وظلّت الدولة العثمانية متمسكة بالمبادئ الإسلامية، وقدّمت أروع الأمثلة في العدل والإنصاف مع الشعوب الخاضعة لها. ويقول عبد الرحمن عزّام عن حُسن معاملة الخلافة العثمانية وعدلها:
«يظنّ بعض الناس بشأن بعض عصور الدولة العثمانية أنها – مع عظمتها – لم تكن معروفة بالرحمة، وهذا وهم؛ فالأباطيل لا تقوى على مجابهة الحقيقة. ولا تزال أمثلة صلة الرحم مشهورة إلى اليوم في مدينة “سورابيا” الواقعة على ضفاف نهر دنيستر في رومانيا، وقد قيل لي: إن سكان الأقاليم العثمانية كانوا دائمًا يذكرون نماذج رحمة الأتراك، ويروون قصص عدلهم وإنصافهم.
ومن أمثالهم المشهورة: “انتهى العدل بعد رحيل الأتراك”.

وقد سمعتُ هذه الشواهد بنفسي ودوّنتها خلال أسفاري في مولدافيا ورومانيا ومناطق البلقان، وكل هذه الوقائع تدل على أن الأمم المسيحية ما زالت إلى اليوم تحترم المسلمين الأتراك، وتتناقل قصص رحمتهم وعدلهم».

Exit mobile version