المرحلة الأخيرة من المعركة:
في المرحلة الأولى كانت الكفّة راجحة لصالح المسلمين، ففرّ المشركون وولّوا هاربين من ساحة القتال. في هذا الوقت انشغل المسلمون بجمع الغنائم، وكانت المرحلة الأولى قد حُسمت لصالحهم، وقد وفّى الله تعالى لهم وعده بالنصر ومنحهم الظفر. قال الله تعالى في هذا الشأن:
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾.
وكذلك يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
لقد أنعم الله علينا في أُحد بأعظم نصر. قال الراوي: فأنكرنا ذلك على ابن عباس رضي الله عنه، فقرأ علينا الآية المذكورة أعلاه.
[تفسير ابن كثير، ج ١، ص ٤٢١]
استشهاد حمزة رضي الله عنه:
كان جبير بن مطعم مشركًا، وقد قُتل عمّه طُعيمة بن عدي يوم بدر على يد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فأراد جبير في هذه المعركة أن يثأر لعمّه. وكان لديه غلام ماهر في رمي الحربة يُدعى وحشي بن حرب، فقال له: إن قتلتَ حمزة رضي الله عنه فأنت حرّ.
يقول وحشي ـ وقد أسلم بعد ذلك ـ: خرجتُ وأنا أترقّب حمزة رضي الله عنه، فرأيته كأنه أسدٌ يكسر صفوف الكفار ولا يستطيع أحد الوقوف في وجهه. فاختبأتُ له خلف صخرة أترصّد الفرصة. وفي تلك اللحظة تقدّم إليه سباع بن عبد العزّى، فناداه حمزة رضي الله عنه: «إليك يا ابن مقطِّعة البظور!» فهجم عليه وضربه ضربةً قضت عليه.
قال وحشي: عندها هيّأتُ الحربة ورميته بها، فأصابته في بطنه وخرجت من ظهره، فحاول أن يتقدّم نحوي فلم يستطع، فسقط. فذهبتُ إليه ونزعتُ الحربة منه. ولمّا عدتُ إلى مكة أُعتِقت.
كان ذلك استشهاد أسد الإسلام؛ ذاك الذي لم يكن لأي مشرك قدرة على الصمود أمامه، والذي خلّد في المعارك المباشرة مواقف بطولية عظيمة. ومع أن استشهاده كان خسارةً كبيرة لجيش الإسلام، إلا أن بشائر النصر كانت لا تزال قائمة، وكانت علامات الغلبة بادية على وجوه المسلمين، إذ كان في الجيش رجال آخرون كالأسود ترتجف قلوب المشركين من مواجهتهم.
خطأ الرماة المتمركزين على جبل الرماة:
لقد قرأنا أن رسول الله ﷺ وضع خمسين من الصحابة على جبل الرماة لحماية ظهور المسلمين. فلما رأوا فرار المشركين ونصر المسلمين، ترك تسعة وثلاثون منهم مواقعهم، ظنًّا منهم أن المعركة قد انتهت وأن عليهم المشاركة في جمع الغنائم.
غير أن قائدهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه لم يأذن لهم، إذ أدرك حكمة تأكيد النبي ﷺ، لكنهم مع ذلك خالفوا الأمر ونزلوا إلى الميدان. ولم يبقَ على الجبل سوى أحد عشر رجلًا، كان عبد الله بن جبير رضي الله عنه في مقدّمتهم.
وكان خالد بن الوليد ـ ولم يكن قد أسلم بعد ـ يراقب الموقف، فلما رأى الجبل خاليًا اغتنم الفرصة لقلب موازين المعركة، فانقضّ مع مجموعة من المشركين على الصحابة الأحد عشر فاستشهدوهم، ثم هاجم المسلمين من الخلف. وكان بعض المسلمين مشغولين بجمع الغنائم، وبعضهم يطارد المشركين الفارّين، ففوجئوا بهجوم فرسان خالد من الخلف، فاستشهد في تلك اللحظة عدد كبير من المسلمين.
فلما رأى المشركون الذين كانوا قد فرّوا ما جرى، عادوا إلى القتال، فوقع المسلمون في حصار من الجانبين، ودفعوا ثمنًا باهظًا لعصيانهم الأمر.
شائعة استشهاد رسول الله ﷺ:
كان لواء جيش الإسلام مع مصعب بن عمير رضي الله عنه، فاستشهد في تلك الفوضى على يد ابن قَمِئَة. ولما كان مصعب رضي الله عنه يشبه رسول الله ﷺ في هيئته، ظنّ المشركون أن النبي ﷺ قد قُتل.
فصاح ابن قَمِئَة: «قتلتُ محمدًا». فانهارت بذلك بقية عزائم بعض المسلمين، وتزاحمت الأسئلة في الأذهان: كيف ستكتمل الرسالة؟ وكيف سنعيش دون رسول الله ﷺ؟ وكان ذلك سببًا في تراجع عدد من الناس عن القتال وجلوسهم حائرين.

















































