غزة فی لهیب النار! الجزء الأول

أحمد یحیی

الخلفية التاريخية لاحتلال فلسطين

لفهم النار التي تشتعل اليوم في غزة، ولاستيعاب ذلك الصمت الذي خيّم على العالم، لا بدّ من العودة إلى البداية؛ إلى المنبع الذي تفجّر منه هذا المسار الطويل، المعقّد، والدموي.

تبدأ هذه الرحلة التاريخية بأسئلة جوهرية: كيف تحوّلت أرضٌ ذات تاريخ يمتدّ آلاف السنين، وكانت موطناً لشعبٍ متجذّر الجذور، إلى ساحةٍ لأطول وأعقد صراع في العالم المعاصر؟ في أي مرحلة من التاريخ زُرعت بذرة الاحتلال؟ وما العوامل السياسية والفكرية والاستعمارية التي غذّتها وأسهمت في نموّها؟ ولماذا، رغم مرور عقود وتغيّر موازين القوى الدولية، لم يُحلّ هذا الصراع، بل ازداد تعقيداً واتخذ أشكالاً أكثر عنفاً؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تُعدّ مفتاحاً لفهم مختلف أبعاد الكارثة التي نشهدها اليوم.

تعود الخلفية التاريخية لاحتلال فلسطين إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأت الحركات القومية بالظهور في أوروبا. وفي هذا السياق وُلدت فكرة الصهيونية السياسية، التي هدفت إلى إقامة «وطن قومي لليهود» في فلسطين، وهي المنطقة التي كانت آنذاك تحت سيطرة الدولة العثمانية، وكان غالبية سكانها من العرب. وقد اكتسب هذا المشروع طابعاً رسمياً عام 1917 من خلال «وعد بلفور» الصادر عن الإمبراطورية البريطانية، وذلك بعد أن أصبحت بريطانيا القوة المنتدبة على فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى.

وخلال فترة الانتداب البريطاني، أسهمت السياسات الاستعمارية—مثل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتمليكهم الأراضي—في إحداث تغييرات تدريجية في البنية الديموغرافية والملكية في المنطقة، ما أدى في كثير من الأحيان إلى اندلاع أعمال عنف وصدامات مع السكان العرب الفلسطينيين.

وبعد الحرب العالمية الثانية ومأساة الهولوكوست، تصاعدت الضغوط الدولية لإقامة دولة يهودية. وفي عام 1948 اقترحت الأمم المتحدة خطة التقسيم، التي دعت إلى إنشاء دولتين: يهودية وعربية. وافقت القيادة الصهيونية على الخطة وأعلنت قيام دولة إسرائيل، في حين رفضها الفلسطينيون والدول العربية المجاورة. وكانت النتيجة حرباً انتهت بانتصار إسرائيل، وتوسّعها في احتلال مساحات أوسع من تلك المخصّصة للفلسطينيين.

تُعرف هذه الحادثة في الذاكرة الفلسطينية باسم «النكبة»، وهي شكّلت علامة فارقة تمثّلت في التهجير القسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين، والاستيلاء على أراضيهم، وبداية مأساة طويلة الأمد خلّفت مشاعر الغضب والمرارة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم. ثم جاءت حرب عام 1967، التي شمل الاحتلال فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، لتعمّق الجرح وتمنح الاحتلال شكله الكامل.

ولاستكشاف هذا التاريخ المعقّد، تعتمد هذه المقالة على سردٍ تحليليٍّ نقدي، يقوم منهج البحث فيه على دراسة الوثائق التاريخية، وتحليل النقاشات السياسية الدولية، وتتبع الجذور الأيديولوجية للصراع. فالغاية ليست مجرد سرد الأحداث، بل فهم قوى الاستعمار والقومية ومصالح القوى الكبرى التي أسهمت في صناعة مأساة فلسطين.

وتُبيّن هذه المقالة أن غزة اليوم ليست مجرد «مشكلة أمنية» عابرة، بل هي الفصل الأخير من قصة تمتدّ لأكثر من سبعين عاماً؛ قصة تهجيرٍ ومقاومةٍ واحتلالٍ عسكري وحصارٍ جماعي، استمر عبر أجيال متعاقبة.
إن فهم هذا السياق التاريخي يُعدّ أساساً ضرورياً لإدراك عمق الكارثة الإنسانية الراهنة، وتحليل صمت المجتمع الدولي، واستشراف غموض المستقبل.

Exit mobile version