ذكرى الشهيد هنية تقبّله الله؛ سطور من الوفاء

قاري إسحاق

اليوم، 31 يوليو، يُصادف ذكرى استشهاد قائد المكتب السياسي لحركة حماس، ورمز الأمة الشهيد أحمد إسماعيل هنية، رحمه الله وتقبله. لقد خلّد التاريخ الإسلامي صفحاته بأعمال أولئك الذين غرسوا خناجرهم في قلب الباطل، ولم يخضعوا لأي قوة عظمى، بل كانت ثقتهم بالله وحده.

ما زال ركب محمدي مزدانًا برجال ثبتوا أمام طغاة الزمان كالجبل، وكسروا غرورهم. وإذا كان هذا الركب قد واجه فُرقة الكبار، فإن هذه الفُرقة لم تُضعفه، بل زادته قوة، فكل قطرة دم سالت في سبيل الله من أحد أبناء هذا الركب، تُورث سبعين فتىً جديدًا يحملون الراية.

ولو كانت شهادة العظماء تُضعف هذا الركب أو تُنهيه، لما بقي له أثر اليوم. لكنه ركب عظيم خالد، شرب مرارة فراق مؤسسه وقائده محمد ﷺ.

وبعد رسول الله ﷺ، جاء فراق الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ومع ذلك، لا تزال أنوارهم ساطعة، وعيون الشريعة جارية، والمسيرة مستمرة.

منذ الأمس وإلى اليوم، يعيش العالم الإسلامي نكبات كبرى على أيدي الباطل ومَن يسمّون أنفسهم “حقوقيين”، يمارسون جرائم لا تُوصف، يعجز القلم عن تدوينها واللسان عن نطقها، ومع ذلك، يُهزمون ويذلون أمام ضربات الحق، حتى لا تعود لهم هيبة.

وقد رأينا ذلك بوضوح في أفغانستان، كيف هُزمت أمريكا وحلفاؤها شرّ هزيمة، وكيف خرجوا أذلاء بعد عقدين من الاحتلال، رغم بدايتهم الغاشمة التي أرادت أن تُخضع البلاد باسم “الحرية”، لكن الروح الجهادية لم تنكسر، بل ازداد المجاهدون صمودًا.

في أشد لحظات المعركة، تذكرت أمريكا “فيتنام” في ميدان شاهي كوت، ثم بدأ الانسحاب، وكانت آخر مروحية تفرّ تحت جنح الظلام على أنظار العالم. واليوم، ها هو عدو جديد وظالم آخر، يُطوّقه أبطال فلسطين من جديد.

في فلسطين، تكررت ملحمة شاهي كوت، وبدأ مجاهدو حماس عمليات “طوفان الأقصى” الناجحة. عملياتهم المخططة بدقة أربكت جهاز الموساد الشهير، ووجّهت له ضربة قاصمة جعلت سمعته تتهاوى.

ألحقت كتائب حماس أضرارًا فادحة بالعدو في الأرواح والممتلكات، مما دفعه للانتقام من المدنيين، فقصف الأبرياء ودمّر البيوت، واستشهد الآلاف وجرح مئات الآلاف، وشُرّد الملايين، وما زالت المأساة مستمرة.

دمّرت آلة الحرب الصهيونية غزة بالكامل، لكنها لم تستطع إنهاء الجهاد. بل ازداد صلابة، والعدو يواجه حربًا جديدة كل يوم، حتى اعترف مرارًا: هذه الحرب لم تعد حربنا.

تضحيات المجاهدين وأهل غزة كانت عظيمة، فأُرغم العدو على التراجع، وأُجبر على الاعتراف بهزيمته، وأثبت الميدان أنه لأتباع الشهيد هنية، ويحيى السنوار، ومحمد ضيف.

الإمام السياسي لحماس: الشهيد إسماعيل هنية

كان الشهيد إسماعيل هنية من كبار قادة الأمة الذين ضحّوا بكل شيء في سبيل الله. وُلِد في 23 يناير 1962 في ديار الهجرة، إذ أُجبر والده، كغيره من اللاجئين الفلسطينيين، على الخروج من قريته بالقوة من قبل الاحتلال الصهيوني، واستقر في مخيم الشاطئ. وهناك بدأ إسماعيل هنية تعليمه الأساسي، ثم أكمله في معهد الأزهر، قبل أن يواصل دراسته الجامعية في الجامعة الإسلامية بغزة، حيث نال شهادة البكالوريوس في الأدب العربي، وتولى لاحقًا مسؤوليات إدارية فيها.

لذكائه وحرصه، أوكلت له حماس مسؤوليات متزايدة، حتى عُيّن عام 1997 مديرًا لمكتب الشيخ الشهيد أحمد ياسين. عرف هنية جيدًا أوجاع شعبه وممارسات العدو الصهيوني، وكان قريبًا من همومهم.

بإخلاصه، حاز حب الناس، فانتُخب رئيسًا للوزراء عام 2006، لكن رئيس السلطة العميل أقاله عام 2007. ورغم ذلك، واصل طريقه بثبات، وتولّى قيادة المكتب السياسي لحماس عام 2017، وأدار السياسة بإبداع أزعج الأعداء، فأدخلوه قوائم الإرهاب، لكنهم لم يُضعفوا عزيمته.

تعرض للسجن ثلاث مرات، وقضى أكثر من ثلاث سنوات خلف القضبان، وواجه عدة محاولات اغتيال، أبرزها في 2006، دون أن يُصاب بأذى. لكن العدو، حين عجز عن اغتياله، انتقم منه في أسرته، فقصف منزله واستُشهد سبعة من أقاربه، ثم استشهد لاحقًا ثلاثة من أبنائه.

ورغم كل ذلك، لم تتزعزع عزيمته، بل ردّ قائلاً يوم استشهاد أبنائه في عيد الفطر:

“أبنائي ودماءهم ليست أغلى من دماء أهل غزة المظلومين.”

وفي النهاية، نال ما كان يتمناه منذ سنين: الشهادة. في صباح 31 يوليو 2023، استيقظت الأمة على حزن عظيم، عيون دامعة، وقلوب مكسورة، وكأن الفرح لبس ثوب الحداد. لقد كان صباح استشهاد أحمد إسماعيل هنية.

وكان الألم أشد على شعب فلسطين، الذي نسي آلام الجوع والتشريد والفقر أمام فاجعة هذا الفقد الجلل.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

Exit mobile version