من غير المنصف أن نغض الطرف عن حقيقة أن تنظيم داعش يشكّل مشكلة تتجاوز حدود دولة أو منطقة معينة، أو أن يُنظر إليه كمسألة داخلية لبعض الدول فقط، فالحقيقة هي أن هذا التنظيم نشأ بدعم من أجهزة استخباراتية ومالية دولية، وهو يستخدم الإسلام وقيمه كستار لتحقيق أهدافه المشؤومة وغير الشرعية، ويخوض معركته من أجل تأمين مصالح أسياده وتحقيق مكاسبهم الخاصة.
ولو نظرنا إلى نشاطات داعش وهجماته الدامية في أوروبا وآسيا، لوجدنا أن هذا التنظيم لا يملك جغرافيا محددة ولا حتى عقيدة ثابتة لنضاله، ولا يتحمّل بروز أي تنظيم منافس له، لأنه حينها تُفتَضح مصالحه وخططه المستقبلية، كما أن الاستثمارات التي وُضِعت فيه لا تؤتي ثمارها المرجوة.
المشكلة أن ما تُسمّى “المجتمع الدولي” والمنظمات المعنية بمكافحة الإرهاب وغيرها من الجهات ذات الصلة لم تتخذ موقفاً حازماً تجاه داعش، بل إنها لا تزال توفّر له بيئة سياسية واجتماعية ملائمة للنمو، كي تواصل الأنظمة المستبدة والجهات المموّلة له نهب المال العام، وتمديد حكمها غير المشروع وممارسة الاستبداد.
لقد تضررت من هذه الظاهرة التدميرية دول إسلامية وغير إسلامية على حد سواء، بل وصل الأمر إلى حد أن خططاً ومؤامرات أُعِدت في دول كافرة لضرب دول إسلامية باستخدام داعش.
والأعجب من ذلك أن الجهات والدول الداعمة لداعش كانت دائماً ما تلقي باللوم على أفغانستان دون أدلة أو مستندات، وجعلت من ذلك وسيلة للهروب من مسؤولياتها. لكن لحسن الحظ، فإن عودة الإمارة الإسلامية أدت إلى زوال موطئ قدم لما يُسمّى بـ”داعش خراسان” في أفغانستان، حيث تلقى هذا التنظيم ضربات قاتلة على يد قوات الأمن في الإمارة الإسلامية، ما جعله يتردد كثيراً في محاولة العودة من جديد.
كما أن الكراهية الشعبية والتنكر لهذا التنظيم كانت من العوامل الأساسية التي كشفت وجهه الحقيقي كجهة دخيلة وغريبة، ما اضطره للعودة إلى أحضان أسياده ومموليه الأصليين. وهذه ليست مجرد مزاعم، بل حقيقة أن التحالف بقيادة أمريكا قد قام بتدريب واستخدام عناصر داعش كميليشيات أرضية أو قوات مساندة، ولم يخطئ في قصفهم ولو عن طريق الخطأ، بل على العكس، استهدف المدنيين الأبرياء ثم اعتذر أو أعرب عن أسفه لاحقاً.
وإذا عدنا إلى مصدر داعش الأساسي، أي العراق وسوريا، نجد أن تلك المرحلة تزامنت مع وجود قوات التحالف الأمريكي هناك، حيث كانت ترفع شعار دعم الحكومات المحلية العميلة، لكنها في الخفاء كانت تغذي بذور داعش، حتى كاد شوكه أن يصل إلى ثيابهم، ومع ذلك لا توجد أي أمثلة على قيام قوات التحالف بقصف داعش أو استهدافه عملياً، بل تم تزويده بالسلاح والإمكانات سراً.
أما روسيا، التي كانت حليفاً لنظام الأسد، وكان لها وجود عسكري في سوريا، فقد كانت إحدى الدول المتضررة من داعش، لكنها رغم ذلك لم تستخدم قوتها العسكرية الحقيقية ضده، بل وأبدت له نوعاً من التعامل الودي. ربما قامت كل من روسيا وأمريكا بتحركات ظاهرية واستعراضية ضد داعش، لكنها لم تخض قط عمليات حقيقية للقضاء عليه.
وفي أفغانستان أيضاً، خلال فترة الاحتلال الأمريكي ووجود قوات التحالف، قدم الغزاة الأجانب دعماً غير مباشر لداعش، خاصة عندما بدأ التنظيم بالانتشار في بعض مديريات ننجرهار، وواجه مقاومة شرسة من الإمارة الإسلامية، كان الغزاة يتدخلون في الليل بطائراتهم لنقله أو تزويده بالمعدات عندما كان محاصراً أو يعاني من نقص السلاح.
ومن جانب آخر، تبيّن لاحقاً من خلال الوثائق التي تم الحصول عليها من عناصر داعش المعتقلين أن بعض قادة ومسؤولي إدارة كابل السابقين كانوا يقدمون له الدعم، بل كانت هناك مشاريع استخباراتية منفصلة يُمنحها الغزاة وقنواتهم لقادة محليين لتعزيز حضور داعش وتجنيده في مناطقهم، ومن ثم استخدامه ضد الإمارة الإسلامية، إلا أن جميع تلك الخطط باءت بالفشل.
كما كان هناك عدد من عناصر داعش الذين أمضوا ليالٍ في ضيافة الحكومة الجمهورية السابقة، وتلقوا منها خطط الهجمات، ونفذوا اغتيالات ضد علماء وقادة قبائل وشخصيات مرموقة، ثم حاولوا إلصاق التهم بالمجاهدين من طالبان لتشويه صورتهم أمام الرأي العام المحلي والدولي.
وداعش في جوهره لعبة استخباراتية خفية للدول الكافرة، ولذلك حظي بدعم استخباراتي من الدرجة الأولى، وكانت تُزوّده بخطط الهجمات والخرائط، وكان هدفه الأكبر هو زرع الفتنة بين المسلمين السنّة والشيعة، كي يشتبك المسلمون فيما بينهم، مما يسهم في تحقيق أهداف الغزاة، ويدفع بالدول الإسلامية إلى دعوة تلك القوى الأجنبية لتكون قوات حفظ سلام وشركاء في الأمن.
وفي كثير من الحالات، نجا عناصر داعش من هجمات خططت لها الإمارة الإسلامية، لأنهم كانوا يتلقون تحذيرات ومعلومات استخباراتية من أسيادهم لتغيير مواقعهم وخططهم.
ومن الأنسب أن تتعلم الجهات الراعية لداعش من التجارب الفاشلة السابقة، وتغيّر سياساتها وخططها، وتوقف دعمها لهذا التنظيم القاتل، ولا تسمح له بجعل أفغانستان وسائر دول المنطقة مسرحاً لعدم الاستقرار، لأن هذا الحريق سيلتهمهم قبل غيرهم، كما حصل فعلاً في السابق، وكرروا الخطأ مراراً.
يجب على جميع الدول والجهات المتضررة، كما فعلت أفغانستان، أن تؤدي مسؤولياتها بشجاعة في مكافحة داعش.